ميزانية ازدهار اقتصادي مستدام

توافقاً مع مبدأ الشفافية الذي أرست قواعده "رؤية المملكة 2030"، نشرت وزارة المالية معلومات مرحلية عن وضع الميزانية العامة للدولة، وذلك عن تسعة أشهر مضت من عام 2017، وبشكل واضح بدا أن المملكة تجاوزت أزمة انخفاض أسعار النفط، وأن الصعوبات المالية التي كانت تهدد المالية العامة أصبحت من الماضي، لقد أعيد وبشكل كامل إصلاح بنية المالية العامة، وهناك تنوع واضح في مصادر الدخل، فقد نمت الإيرادات غير النفطية بنسبة 80 في المائة عن مثيلتها في السنة الماضية، وهذا إنجاز تاريخي بكل المقاييس، هذا إذا وضعنا في الاعتبار أن كثيرا من قرارات إصلاح المالية العامة لم يبدأ بعد، ومن أهمها ضريبة القيمة المضافة التي من المتوقع أن تحدث نقلة هائلة في الإيرادات غير النفطية.
لقد جاءت بيانات المالية العامة بإيرادات بلغت 450.1 مليار ريال، بينما بلغت المصروفات 572 مليارا، المصروفات والعجز 121.5 مليار في تسعة أشهر، وأكدت وزارة المالية أن العجز انخفض بنسبة 40 في المائة، وذلك يعود بشكل واضح إلى ارتفاع الإيرادات غير النفطية بنسبة 80 في المائة، وهو بكل تأكيد مؤشر واضح الدلالة على تجاوز المملكة مشكلة الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل، وإذا كانت الإيرادات النفطية لم تزل تمثل نسبة مهمة من الإيرادات حتى الآن، لكن هذه النتائج التي أظهرتها الميزانية العامة تدل على أن المسار الآن صحيح.
إن تقليص الاعتماد على النفط أصبح واقعا نعيشه، وهذا كافٍ جدا في هذه المرحلة من عمر الإصلاحات الاقتصادية التي تشهدها المملكة.
بالطبع، لم تزل مشكلة العجز قائمة لكنها لم تعد تشكل هاجساً كبيراً، فالمملكة اليوم تعتمد على نموذج اقتصادي واضح في بناء إيرادات المالية العامة، وأصبح من السهولة بمكان التنبؤ بشكل دقيق عن مسار العجز المتوقع وآلية مواجهته، وذلك على عكس السنوات الماضية، حيث إن العجز مرتهن بتوقعات أسعار النفط فقط، ولم تكن الإيرادات غير النفطية تمثل أي تأثير فيه، ولهذا فإن العجز في ذلك الحين كقارب في مهب ريح الأسعار، وهذا يجعل التخطيط الاقتصادي وتمويل المشاريع والتنمية أمرا غير واضح المعالم طوال السنة، وفي أجواء اقتصادية مثل هذه، فإن الاقتراض كان صعبا ويعتمد على مصارف محلية فقط، وهذا الواقع الصعب والمعقد أدى إلى اتخاذ الحكومة قرارات صارمة وصادمة في الوقت نفسه عندما انهارت الأسعار بشكل هائل، ومن بين تلك القرارات إيقاف المشاريع الحكومية جميعها وإيقاف صرف البدلات، حيث لم يكن من السهولة التنبؤ بأي اتجاهات، والسيطرة على العجز مستحيلة فيما لو تم الاستمرار في الصرف، ولم تكن القدرة على التمويل واضحة في حينها. لكن هذا أصبح اليوم من الماضي.
فالنتائج تعزز ما توصل إليه تقرير صندوق النقد الدولي الذي تضمن رضا واضحا بالمسار الذي انتهجته المملكة، وهناك توقعات بتعزيز النمو على المدى المتوسط، فالمملكة باعتمادها على نشاط وحركة أسواق السندات العالمية ومنافستها في هذا المجال، يتحتم عليها الوفاء بكثير من الوعود الإصلاحية، من أهمها استمرار الشفافية والمصداقية في المعلومات، وكلما زاد إقبال العالم على شراء السندات الحكومية السعودية كان ذلك نتيجة لما تعمل عليه المالية من جهود استثنائية لتعزز الثقة، التي لن تتحقق إلا إذا شهد العالم ومن خلال الأرقام والتقارير الدولية على نجاح الإصلاحات، هذا من ناحية، ومن جانب آخر، فإن النجاح في استقطاب الاستثمار الأجنبي لتمويل مشاريع الدولة من خلال شراء السندات يؤكد ثقة العالم بقدرة الاقتصاد السعودي على خدمة الدين بعيدا عن تقلبات أسعار النفط، وهذا لم يكن متحققا فيما سبق. لهذا فإن كل المعطيات التي أشرنا إليها تؤكد أن المملكة استطاعت تجاوز أزمة انخفاض أسعار النفط والإيرادات العامة، وأنها اليوم تسير بخطى ثابتة نحو ازدهار اقتصادي قريب، يتميز بالاستدامة، بإذن الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي