FINANCIAL TIMES

الأرجنتين تشد العزم للخروج من ماضيها الشعبوي

الأرجنتين تشد العزم للخروج من ماضيها الشعبوي

قلة هم الذين استطاعوا بمهارة عبور اقتصاد الأرجنتين المتعثر بقدر ما فعل إدواردو يورنيكيان. على الرغم من مرور نصف قرن من الأزمات المالية المتكررة، تغلب الملياردير البالغ من العمر 84 عاما عليها كلها، فهو يسيطر الآن على شركة إيرو بويرتس أرجنيتنا 2000، إحدى كبريات شركات تشغيل المطارات الخاصة في العالم.
لكن النزعة الحمائية التي يقول النقاد إنها تساعد منذ زمن طويل رجال الأعمال مثل يورنيكيان من المتوقع أن تنتهي كجزء من توجه الرئيس موريسيو ماكري نحو تحديث الأرجنتين. بعد استشعاره لهذا التحول، يتجه يورنيكيان إلى الأعمال المصرفية على الجوال، وهي أعمال لم يكن من الممكن تصورها تقريبا قبل سنوات قليلة فقط في بلد يعرف بالمحسوبية ويشتهر بحالات العجز عن الوفاء بالديون والتضخم المرتفع.
يقول يورنيكيان، الذي يدعم "واناب"، أول مصرف إلكتروني فقط في الأرجنتين: "لن نعود إلى ما كنا عليه في الماضي أبدا. إما أن تستوعبنا العولمة، وإما لا. لا توجد أنصاف حلول".
ويرغب كثيرون في تصديق يورنيكيان، على الأقل المستثمرون العالميون الذين اشتروا أكثر من 54 مليار دولار من سندات الأرجنتين منذ أن عادت البلاد إلى أسواق رأس المال الدولية في آذار (مارس) من عام 2016 بعد عقد من الغياب. وقد اقتنعوا، مثل يورنيكيان وكثيرين غيره، بخطة ماكري المتمثلة في تحويل الدولة العضو في مجموعة العشرين ونقلها خارج ظل ماضيها الشعبوي.
ستتعرض آمالهم للاختبار بعد الانتخابات النصفية التي تعد على نطاق واسع استفتاء بشأن أول عامين قضاهما ماكري في منصبه. باعتباره مهندسا يبلغ من العمر 58 عاما ورجل أعمال في السابق، فإنه الشخص الأول ضمن موجة من الرؤساء التكنوقراطيين في منطقة كانت تفضل في بعض الأحيان القادة الشعبويين.
تتوقع استطلاعات الرأي أن ائتلاف ماكري يمكن أن يفوز بما يقارب 40 في المائة من الأصوات الوطنية، وهو تحسن عن نسبة 34 في المائة التي حصل عليها في السباق الرئاسي، وقد يوسع نطاق سيطرته على الكونجرس. وهذا بدوره يمكن أن يسمح لماكري بالضغط من أجل تنفيذ إصلاحات هيكلية، وترسيخ استقرار الاقتصاد الكلي الذي ساعد في إرساء قواعده عندما تولى زمام السلطة في كانون الأول (ديسمبر) 2015.
يقول إدواردو ليفي يياتي، الخبير الاقتصادي ومستشار الحكومة: "من دون الدعم السياسي، لن نتمكن من المضي قدما في تنفيذ تلك الإصلاحات أبدا".
الأمر الذي على المحك هو ما سماه النقاد جدول أعمال ماكري الليبرالي الجديد، الذي يشتمل على تقليص حجم الدولة والحد من الحواجز التجارية. والتحدي الأكبر الذي يواجهه يتمثل في إقناع المستثمرين بأن الأرجنتين تحاول بالفعل التغلب على ماضيها المتقلب، من أجل اجتذاب ما يكفي من الاستثمارات لإطلاق العنان للنمو وعكس مسار قرن من التراجع.
على نحو غير مألوف في المنطقة حاز برنامج ماكري على استحسان كل من دونالد ترمب وسلفه باراك أوباما. لكن حتى إن فاز بالدعم السياسي المحلي الذي يحتاج إليه هناك الكثير من المشاكل التي لا تزال ماثلة أمامه.
تنبع بعض أكبر المخاطر من جدول الأعمال التدريجي الذي انتهجه ماكري لتزويق الطابع المرير الذي غلب على إصلاحاته. باستثناء بعض التدابير الاقتصادية الكلية الكاسحة، مثل رفع الضوابط المفروضة على العملة، فإن قراره المتمثل في الحفاظ على برامجه الاجتماعية أو توسيع نطاقها يعمل على إبقاء العجز في المالية العامة كبيرا بشكل غير مريح. بالنسبة للكثيرين، ويعكس هذا صدى الجهود التي بذلت في الماضي من أجل سد العجز المزمن من خلال الاقتراض الدولي، التي انتهت جميعها بشكل سيئ. ويرى النقاد أن الحكومة اقترضت أكثر تقريبا من أي بلد آخر من الأسواق الناشئة منذ تولي ماكري منصبه.
يقول ليفي يياتي: "الخوف هنا هو أنه يوما ما قد يحسب المستثمرون أن الديون قد زادت بشكل كبير فوق الحد. إنها المشكلة الهيكلية القديمة التي دائما ما كانت تعانيها الأرجنتين".

الفوضى الاقتصادية

حتى الآن يبدو أن الاستراتيجية التي ينتهجها ماكري تحقق آثارها. فقد تم إحراز تقدم واضح يتمثل في القضاء على الإرث الشعبوي للرئيسة السابقة، كريستينا فيرنانديز دي كيرتشنر، التي أورثت كما كبيرا من التشوهات الاقتصادية، بما في ذلك ضوابط الأسعار، وبنك مركزي كادت تنفد احتياطياته من العملات الأجنبية، ما دفع البلاد إلى مشارف أزمة في ميزان المدفوعات.
يقول ألفونسو برات-جاي، أول وزير مالية في عهد ماكري: "كان علينا تجنب التعرض لأزمة مالية. دائما ما كنا نعلم أن القرارات التي نتخذها ستؤتي أكلها خلال مدة تكون قريبة جدا من موعد الانتخابات"، مشيرا إلى الانتعاش الاقتصادي الذي من المحتمل من أن يكون إلى جانب الحكومة في التصويت الذي جرى أمس.
وعلى الرغم من أنه استقال في أواخر العام الماضي، لا يزال برات-جاي يقدم دعمه للحكومة، بعد أن أرسى الأسس التي تسمح للناتج المحلي الإجمالي بالنمو 3 في المائة تقريبا هذا العام، مدفوعا بقطاعي الإنشاءات والأعمال المصرفية، في الوقت الذي تراجع فيه التضخم إلى النصف عن الذروة التي وصل إليها أخيرا والتي بلغت 44 في المائة في حزيران (يوليو) 2016.
بعد الانتخابات، تقول الحكومة إنها تعتزم مضاعفة جدول أعمالها المتعلق بالإصلاحات، بحيث يتم التعامل مع قضايا تتطلب دعما مشتركا من جميع الأطراف. ويقول المسؤولون إنه سيتم تقديم الإصلاحات في المالية العامة، والضرائب، وسوق العمل، وأسواق رأس المال إلى الكونجرس قبل نهاية العام.
وقال ماكري أمام قادة أعمال الأسبوع الماضي: "هذه البداية فقط، لا يزال أمامنا الكثير من المعارك التي يتعين علينا مواجهتها. لن نكون بلد الإمكانات بعد الآن، لكننا سنكون بلد الحقائق".
مع ذلك، حتى إن كان أداء ائتلاف ماكري "دعونا نتغير" جيدا في الانتخابات، لا يزال من المحتمل أن تواجه الإجراءات بعض المقاومة. وتشير آخر استطلاعات الرأي إلى أن الائتلاف قد يزيد من عدد المقاعد التي يسيطر عليها في مجلس النواب من 89 مقعدا إلى نحو 105 مقاعد. لكن هذا يظل أدنى من العدد اللازم للمقاعد، وهو 130 مقعدا، التي يحتاج إليها للحصول على السيطرة الكلية. بالمثل، من المحتمل أن يرتفع عدد مقاعد الائتلاف في مجلس الشيوخ من 18 مقعدا إلى نحو 25، مرة أخرى هذا يقع دون المستوى اللازم للحصول على الأغلبية.
إضافة إلى ذلك، من المتوقع أن تعارض النقابات المهنية القوية محاولات جعل أسواق العمل أكثر مرونة، في الوقت الذي من المحتمل أن يقاوم فيه الحكام الإقليميون، الذين يحتاج ماكري إلى دعمهم من أجل إقرار التشريع، محاولات كبح جماح الإنفاق.
ومن الممكن أن تصبح الصورة أكثر سوءا بكثير بالنسبة لائتلاف ماكري لولا الفوضى التي تعانيها المعارضة الرئيسة. لا شيء يوضح المشاكل التي تتعرض لها الحركة البيرونية أفضل من الحقيقة التي مفادها أن فيرنانديز التي تشوهت سمعتها بسبب ادعاءات الفساد، بما في ذلك الرشوة والمحسوبية، وهي تهم تنكرها، لا تزال الشخصية الأكثر نفوذا وتأثيرا في الحركة. ما يعقد الأمور أكثر هو أنها قررت خوض الانتخابات النصفية من خلال ائتلافها "يونيداد كويدادانا" الذي يعني الوحدة الشعبية.
ويمكن القول إنها السياسية الأقوى في البلاد لما يقارب عقدا من الزمن. وتخوض هذه المرأة اليسارية البالغة من العمر 64 عاما الانتخابات عن مقاطعة بيونس آيرس الأكثر اكتظاظا بالسكان، التي عادة ما تكون الأساس الوطيد للبيرونية - الحركة السياسية المهيمنة على قطاع السياسة في الأرجنتين خلال السنوات الـ 70 الماضية - وضد شخص مجهول نسبيا.
يقول جوستافو مارانجونين، وهو مستشار سابق لدانيال سْيولي، الخاسر في الانتخابات الرئاسية عام 2015، الذي كان مدعوما من قبل فيرنانديز: "بالنسبة للبيرونية، كريستينا أشبه بكونها فازة صينية: كبيرة، لكن لا يمكن وضعها في أي مكان. من السهل على ماكري تولي مهام الحكم عندما تكون المعارضة آخذة في الفشل".
واستفاد ماكري أيضا من التناقضات التي بينه وبين الرئيسة السابقة التي اتسمت فترة ولايتها الثانية بالركود الاقتصادي ومعركة مع حملة السندات بعد إعلان الإعسار في عام 2001، الذي أدى إلى إعسار ثان في عام 2014.
وبرغم الفضائح المتعلقة بتضارب المصالح - ظهر اسم ماكري ضمن قائمة الحسابات الخارجية المنشورة في "أوراق بنما" بوصفه عضوا في مجلس إدارة شركة كبيرة وكان متهما بمحاباة شركة مملوكة لوالده – إلا أن ماكري هو الرئيس الأكثر شعبية في أمريكا اللاتينية. ووفقا لوكالة بولياركيا لاستطلاعات الرأي، بلغت نسبة شعبيته 54 في المائة في أيلول (سبتمبر)، مرتفعة من 45 في المائة حصل عليها في حزيران (يوليو).
يقول لويس تونيلي، وهو عالم سياسي يجادل بأن عددا قليلا من أفراد الشعب الأرجنتيني يرغب في العودة إلى الماضي: "كريستينا منحت ماكري الطاقة. فهي تساعد في تذكير الجميع بأن الماضي لا يزال قريبا جدا".
في الوقت الذي يبدو فيه الموقف المحلي إلى جانب ماكري – لم يؤكد حتى الآن أنه سيسعى لخوض الانتخابات في عام 2019 لكن يعتقد بعض المحللين أنه سيفوز – إلا أن المخاطر الأكبر موجودة في الخارج. إعادة التوازن التدريجي للاقتصاد الكلي الذي يسعى لتحقيقه تعتمد على قدرة الأرجنتين المستمرة على الحصول على قروض دولية من أجل تمويل العجز المالي الذي تعانيه.
بالنسبة للوقت الراهن، لا تزال ديون الأرجنتين منخفضة نسبيا، بعد عقد من التجميد وبقاء البلد خارج أسواق السندات. ويقدر خبراء الاقتصاد في "بانك أوف أمريكا ميريل لينتش" ديون الحكومة بـ 24.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، باستثناء ديون القطاع العام، مقارنة بنحو 17 في المائة عندما تولى ماكري زمام السلطة.

الجمهور في الخارج

نظرا للسياق العالمي الذي يتسم بانخفاض أسعار الفائدة والمستثمرين المتعطشين للعائدات، من غير المرجح أن يتسبب الاعتماد على الائتمان بمشكلة قبل انتخابات عام 2019. بحلول ذلك الوقت، تستهدف الحكومة أن يكون العجز الأولي بنسبة 2.2 في المائة، والتضخم بنسبة 5 في المائة.
مع ذلك، تتفاقم مشكلة الضعف الخارجي الذي تعانيه الأرجنتين بسبب قضايا عميقة تجعل من الصعب عليها المنافسة في الأسواق العالمية - مع الاستثناء الملحوظ لقطاعها الزراعي المتقدم للغاية. وجهود ماكري الرامية إلى فتح اقتصاد الأرجنتين المحمي بشكل فائق عملت حتى الآن على إحداث زيادة كبيرة فقط في الواردات.
يقول والتر ستويبلويرث، رئيس البحوث في "بالانز كابيتال"، وهو مصرف استثماري في الأرجنتين: "العجز في الحساب الجاري آخذ في الاتساع بقوة".
مع فشل الاستثمارات المباشرة الأجنبية في القضاء على الركود، يتوقع ستويبلويرث أن يعمل تضخم العجز في المجال التجاري وقطاع السياحة على توليد فجوة في الحساب الجاري تصل إلى 5 في المائة تقريبا هذا العام، مقارنة بـ 2.7 في المائة في عام 2016. ويضيف: "هذه هي نقطة ضعف الأرجنتين المميتة".
سعر الصرف يمثل مشكلة أخرى. يقدر خبراء الاقتصاد أن تقييم البيزو أعلى من قيمته الحقيقية بنسبة 15 ـ 20 في المائة، ومن المرجح أن تبقى الحال كذلك في الوقت الذي يواصل فيه التضخم الارتفاع بأرقام من خانتين. وتعمل أسعار الفائدة التي تبلغ 26.25 في المائة على تقليص حجم التضخم ببطء، لكنها تجتذب تدفقات من "رأس المال الهارب والنقود المذعورة" من الخارج، ما يعزز سعر الصرف بشكل أكبر.
ماريو بليجير، وهو محافظ سابق للبنك المركزي، لا يزال يشعر بالتفاؤل. وهو يري أن مفتاح تحسين التنافسية طويلة الأجل يعتمد على نمو الإنتاجية الذي بدوره يعتمد على الاستثمار. يقول: "العامل الرئيس الذي يحدد ما إذا كان هذا سيكون انتعاشا قويا أو مجرد مثال آخر على التقلبات التي شهدتها البلاد خلال المائة عام الماضية هو مقدار الاستثمار الذي يمكننا اجتذابه".
الدلائل الأولى تشير إلى أن الإنتاجية آخذة في الزيادة بالفعل - جزئيا من خلال إعطاء الأولوية للمشاريع على أسس اقتصادية وليست سياسية، وزيادة الشفافية. ووفقا للبنك المركزي، "الأثر المضاعِف" للاستثمارات العامة ارتفع ثلاث مرات بعد تولي ماكري منصبه.
كذلك استثمار القطاع الخاص بدأ أخيرا في الانتعاش. ومع توقع أن يفوز ائتلاف ماكري، فإن الاستمرارية السياسية من المنتظر أن تعطي مزيدا من التحفيز.
يقول نوح ماميت، السفير الأمريكي السابق في بيونس آيرس، الذي يعمل الآن في القطاع الخاص: "احتاج الأمر إلى سنة ونصف ليشعر المستثمرون والشركات بالارتياح من فكرة الاستثمار في الأرجنتين (من جديد)، لكني الآن أتلقى عدة اتصالات في اليوم".
في عالم الاستثمار، قلة من الكلمات هي أخطر من "الأمر مختلف هذه المرة". كان هناك عدد فوق الحد من حالات الانتعاش الكاذب في ماضي الأرجنتين، حين كانت الحكومات تأتي إلى السلطة محمولة على موج التفاؤل، إلا أن مصيرها كان دائما الوقوع في الأزمة.
لكن بليجير يعتقد أن الأمر مختلف هذه المرة. يقول: "ما السبب في ذلك؟ السبب أن هذه الحكومة لا تؤمن بالسحر". ويجادل بأن خيارات السياسة الاقتصادية للحكومة هي خيارات واقعية، وتم تنفيذها بكفاءة. وليس هناك شيء خاطئ بطبيعته في الاقتراض من أجل تحفيز النمو: "إذا كنا نريد تطبيق السياسة هنا استنادا إلى التاريخ فقط، فمن الأَولى لنا أن نغلق البلد".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES