FINANCIAL TIMES

منطقة اليورو .. عودة ميركل غير المظفرة تجعل الإصلاح أكثر تعقيدا

منطقة اليورو .. عودة ميركل غير المظفرة تجعل الإصلاح أكثر تعقيدا

وصفها القادة الأوروبيون بأنها تمثل بالنسبة إليهم "الفرصة السانحة". وكان من المفترض أن يؤدي انتصار أنجيلا ميركل في الانتخابات الاتحادية في ألمانيا الأسبوع الماضي إلى إعلان البدء في المفاوضات الأكثر طموحا، المتعلقة بإصلاحات منطقة اليورو، منذ أن تم التوقيع على معاهدة ماستريخت في عام 1992.
زعماء الاتحاد الأوروبي بقيادة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، كانوا يستعدون للاستفادة من تجديد ولاية ميركل في تعميق التكامل في منطقة اليورو، في وقت يتمتع فيه التكتل بفترة انتعاش اقتصادي كبير بشكل غير متوقع.
دونالد تاسك؛ رئيس المجلس الأوروبي، أخذ بتحريك الأمور من خلال الدعوة إلى عقد "قمة يورو" يجتمع فيها الزعماء السياسيون للاتحاد الأوروبي في كانون الأول (ديسمبر). ويرغب تاسك أيضا في أن تتخذ الحكومات قرارات "ملموسة" فيما يتعلق بالإصلاحات بحلول حزيران (يونيو).
بدلا من ذلك تعني نتائج الانتخابات الألمانية أن ميركل ستترأس في فترة الولاية الأخيرة لها مستشارة، قاعدة حزبية ضعيفة وستحتاج إلى إدارة جداول الأعمال المتنافسة الخاصة بشركائها في الائتلاف، الأمر الذي من المحتمل أن يتسبب في تعقيد الحوار المتعلق بالإصلاح الذي أصابه التصدع أصلا بسبب الانقسامات الأيديولوجية.
المتشككون في تكتل ميركل الذي يقوده الحزب الديمقراطي المسيحي يمكن أن يغتنموا نتائج الانتخابات لتعزيز معارضتهم لأي أمر قد يؤدي إلى تعرض دافعي الضرائب الألمان لمخاطر مالية أكبر حجما. كما أن احتمال أن يضم الائتلاف الحاكم في برلين الحزب الديمقراطي الحر الذي أعيد إحياؤه، والذي يعارض أساسا بعض الأفكار التي يجري تقديمها ودعمها من قبل باريس من أجل تحقيق مزيد من التكامل الأوروبي، سيعمل على تقييد المجال المتاح للمستشارة لإجراء مناورات من أجل صفقة كبرى بين ألمانيا وفرنسا.
ويتعين على ميركل أيضا التعامل مع حزب "البديل لألمانيا"، الحزب اليميني المتطرف الذي يستعد ليكون ثالث أكبر حزب في البرلمان، والذي يرغب في طرد البلدان الأضعف من منطقة اليورو، ويعمل منذ فترة على إثارة ضجة حول فتح تحقيق برلماني في انتهاكات مزعومة للقانون الألماني حدثت خلال فترة حكم ميركل.
لا شيء من هذا يمكنه أن يردع ماكرون الذي تم انتخابه للرئاسة على منصة تدعو إلى استكمال الاتحاد الاقتصادي والنقدي وتعميقه. وقد أعلن رؤيته المتعلقة بتعزيز العملة الموحدة من خلال أول خطاب رئيس له حول الاتحاد الأوروبي منذ انتصاره في الانتخابات التي أجريت في أيار (مايو). وعرض فكرة واضحة حول ما تريده باريس، قبل ما يمكن أن يكون أشهرا من المفاوضات في برلين بهدف بناء أغلبية حاكمة.
بعد ست سنوات من وضع الأزمات، تعترف الحكومات بأن الأسس غير المكتملة في منطقة اليورو تحتاج إلى تعزيز إذا كان للتكتل أن يتغلب على حالة أخرى من الركود الاقتصادي. وكشفت أزمة الديون السيادية عن حدود قوة العملة الموحدة، ما اضطر البنك المركزي الأوروبي لطمأنة الأسواق بأنه لن يسمح لأي دولة أبدا بأن تصاب بالإنهاك وتخرج من منطقة اليورو، وأطلق العنان لشراء أصول بأكثر من 1.6 تريليون يورو من أجل إنقاذ الاقتصاد من الركود.
كتب تاسك لزعماء الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي قائلا: "ليس هناك حل سحري لاستكمال الاتحاد النقدي والاقتصادي مرة واحدة وإلى الأبد. لكنني مقتنع بأن لدينا الالتزام لتحسين أداء الاتحاد النقدي والاقتصادي وتعزيزه خطوة بخطوة".

مواجهة "الكالفينيين"

عمل وصول ماكرون إلى سدة الرئاسة على وضع المحور الفرنسي ــ الألماني في صميم الجهود الجديدة المبذولة لإصلاح منطقة اليورو.
ويأمل المتفائلون بأن ميركل، التي ستدوم فترة عملها مستشارة لـ 16 عاما إن هي أنهت فترة ولايتها الجديدة، ستستغل سنواتها الأخيرة في السلطة في تشكيل إرث وفرضه على منطقة اليورو، على نحو يتجاوز التخبط والتدابير الطارئة التي توضــــع حــين تنشــــب الأزمــــات الاقتصادية أظفارها.
يقول أحد كبار المسؤولين في بروكسل: "لن ننال مثل هذه الفرصة مرة أخرى لسنوات وسنوات"، مشيرا إلى التباطؤ في دورة الانتخابات الوطنية.
لكن حتى مع وجود ماكرون النشط والمؤيد لأوروبا على طاولة المفاوضات، سيكون التغلب على الصراع الدائم ما بين الرؤى الفرنسية والألمانية المتعلقة باليورو أصعب مهمة أوروبية تواجه الرئيس الصاعد والمستشارة المخضرمة، خاصة مع ضعف موقف ميركل في برلين. كما أن الحسابات السياسية أكثر صعوبة الآن من مجرد وجود معركة بين طرفين. فهي تشتمل على 19 بلدا، وفي النهاية الاتجاه المستقبلي لـ 27 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي.
قال فالديس دومبروفسكيس؛ نائب رئيس لجنة الاتحاد الأوروبي المسؤول عن اليورو، لـ "فاينانشيال تايمز": "يجب علينا أن نستغل هذه الفرصة الاقتصادية والسياسية السانحة. إنها أفضل من الانتظار لحصول أزمة جديدة من أجل إنجاز العمل".
ستكون المحادثات هي المحاولة الأخيرة لإصلاح الثغرات في بنيان العملة الموحدة التي كثيرا ما كانت أسسها تتعرض لأقسى الاختبارات في مواجهة المعتقدات الاقتصادية المتنافسة.
وتنادي ألمانيا بأهمية انضباط السوق، رغم أن برلين من الناحية العملية تأتي للإنقاذ في أحيان كثيرة تتجاوز ما يمكن أن تفعل لو كانت في سوق حرة بالفعل. وتبدو فرنسا أكثر ارتياحا مع دولة كاملة الصلاحيات، لديها سلطة تقديرية للتصرف بأي شكل تراه مناسبا. هذا الزواج غير المستقر، الذي يكون كامنا دائما في تركيبات اليورو، تفاقم خلال سنوات الأزمة عندما هيمنت قواعد الميزانية والإنقاذ، وكانت السياسة المالية العامة مؤذية أكثر من كونها مساعدة في حدوث الانتعاش.
يقول ماركوس برونرماير، أستاذ الاقتصاد في جامعة برنستون: "مثل هذه الأمور لا تزول بين عشية وضحاها، لكن الناس أصبحوا أكثر إدراكا لطريقة تفكير غيرهم".
كل جانب لديه حلفاء في صراع أوروبي قديم يسبق تأسيس اليورو. يصف أحد كبار صناع السياسة هذا الصراع بأنه معركة عقدية في المقام الأول ما بين "الكالفينيين" في الشمال بقيادة ألمانيا وفنلندا وهولندا، و"الكاثوليكيين" في الجنوب بقيادة فرنسا وإيطاليا وإسبانيا.
في أي صفقة كبرى، سيتعين على ماكرون إقناع الكالفينيين بأنهم لن يكونوا رهينة أو ضحية للتبذير من قبل بلدان أخرى في حال تعزيز منطقة اليورو. وستحتاج ميركل لطمأنة الكاثوليكيين بأن عصر التقشف لن يعود فيما لو حدثت أزمة أخرى.
كما أن هناك أيضا تشكيلة محرجة من البلدان خارج نطاق اليورو تشمل السويد وبولندا وهنغاريا. سيتطلب جزء من أجندة الإصلاح إجراء تغييرات على قانون الاتحاد الأوروبي الذي يجب مناقشته من قبل البلدان الأعضاء الـ 28، بما فيهم المملكة المتحدة، بإعطاء الرأي للعواصم التي تصادمت مع بروكسل، مثل بودابست ووارسو.
مهما كانت نتيجة المحادثات التي يجريها ائتلافها، تحتفظ ميركل برباطة جأشها في وجه حملة من الأفكار الآتية من باريس. فهي تقول إن فكرة ماكرون بوجود وزير مالية لمنطقة اليورو "ليست فكرة سيئة"، قائلة إن هذا الدور من شأنه أن يساعد على توفير "تماسك أكبر" في منطقة العملة الموحدة.
وأفكارها المتعلقة بإيجاد ميزانية على مستوى منطقة اليورو تعد أقل طموحا من الأفكار التي طرحها الرئيس الفرنسي ــ أثارت فكرة وجود ميزانية مكونة من "مساهمات صغيرة" بدلا من "مئات المليارات من اليورو". وهذا المال يمكن أن يركز على تقديم الدعم في مناطق تعاني ارتفاعا في معدلات البطالة، أو على استثمارات في التكنولوجيا الرقمية، لكن ليس في شبكات أمان مالي أوسع نطاقا.
وهذا يصطدم مع حلم ماكرون بميزانية كبيرة، تعادل عدة نقاط مئوية من الناتج المحلي الإجمالي للتكتل، لمساعدة الدول الأعضاء على مواجهة عواصف الركود. ويعارض الحزب الديمقراطي الحر بكل ثبات طموحات باريس في هذا المجال.
وبرغم جميع الأولويات المتنافسة، يعتقد مسؤولو الاتحاد الأوروبي أن هناك مجالا للتوصل إلى اتفاق، على الأقل لأن كل عضو في اليورو تقريبا ــ بما في ذلك ألمانيا ــ يعترض على الوضع الراهن.
قائمة القضايا بالنسبة لألمانيا طويلة: شكاوى حول مدى التراخي في إنفاذ قواعد الميزانية، والقلق من أن البنك المركزي الأوروبي اضطلع بدور يفوق حجمه في محاربة الأزمات، وإحباط لأن دائني القطاع الخاص لا يتعرضون لقدر أكبر من الخسائر في عمليات الإنقاذ. إن كانت تريد برلين تحقيق التقدم في تلك المجالات، سيتعين عليها إفساح المجال لتحقيق تقدم في مجالات أخرى.
لويس دي جيندوس، وزير الاقتصاد الإسباني، قال لـ "فاينانشيال تايمز": "خلال الأشهر الستة المقبلة، ما نحتاج إليه هو التوصل إلى اتفاق بشأن جدول أعمال سياسي"، مضيفا أن الحكومات ستسعى لتجنب أي خطوة يمكن أن تؤدي إلى إعادة فتح باب الفوضى في معاهدات الاتحاد الأوروبي.
ومن المرجح أن تكون ميزانية منطقة اليورو اختبارا رئيسا حاسما، بحسب ما قال أحد كبار الدبلوماسيين. وفي إحدى الزوايا، ينضم إلى فرنسا عدد من الحلفاء الجنوبيين، إضافة إلى فيتور كوتساننسيو؛ نائب الرئيس البرتغالي للبنك المركزي الأوروبي. لكن في برلين، وفقا لأحد الدبلوماسيين، الحديث عن كمية كبيرة من أموال الاتحاد الأوروبي مخصصة للتباطؤ تشي بأن طرفا "يُحمّل مسؤولية الآخرين وأخطائهم".
وينصب تركيز ألمانيا على إنشاء صندوق نقد أوروبي، الذي هو في الأساس تحديث للوكالة القائمة حاليا في منطقة اليورو للتعامل مع عمليات الإنقاذ السيادية. وقدم ماكرون دعمه لصندوق نقد أوروبي، لكنه قال ينبغي عدم الخلط بينه وبين خططه المتعلقة بميزانية منطقة اليورو.
في محاولة لإضفاء بصمتها الخاصة على المحادثات، ستقترح المفوضية الأوروبية حزمة رئيسة من السياسات قبل عقد قمة اليورو المقررة في بروكسل في كانون الأول (ديسمبر)، بما في ذلك مسودة قانون لإنشاء صندوق النقد الأوروبي، وورقة سياسة عامة تتعلق بكيفية إنشاء وحدة خاصة بمنطقة اليورو ضمن ميزانية الاتحاد الأوروبي. كما يرى مسؤولو الاتحاد الأوروبي أيضا أن هناك فرصة سانحة لإحراز تقدم في المقترحات مثل استكمال الاتحاد المصرفي الخاص بمنطقة اليورو ــ وهو مشروع يرمي إلى إضفاء طابع المركزية على رقابة المصارف وإدارة الأزمات فيها ــ قبل المضي قدما نحو تصاميم أكبر.
ويروج ماكرون لفكرة الفترة الانتقالية التي تمتد (من خمس إلى عشر سنوات) من أجل التأسيس الكامل لميزانية منطقة اليورو، وفقا لأحد المستشارين. وما إذا كانت ألمانيا مستعدة للعب الدور سيعتمد أولا على قدرة ماكرون على الوفاء بالالتزامات لإعلاء القواعد المالية الخاصة بالاتحاد الأوروبي وتخليص فرنسا من حالة الركود التي تتسم بتراجع النمو. ووجود فرنسا السليمة من حيث المالية العامة من شأنه أن يجعل من الأسهل على ميركل إقناع الجمهور الألماني المتشكك بأنها تبرم صفقات مع شريك موثوق.

عقلية الأزمة

مع ذلك، يحذر مراقبون مخضرمون لديناميكيات الاتحاد النقدي الأوروبي من أن المشاعر لا تزال قوية للغاية بشأن المظالم القديمة. فلا يزال الألمان يخشون خطر الدفع لأي شخص آخر، في الوقت الذي يشير فيه آخرون إلى المنافع الضخمة التي حققتها ألمانيا من منطقة اليورو. وهناك لازمة كثيرا ما تُسمع بين الساسة الأوروبيين في الجنوب ــ وفي واشنطن ــ هي أن المصدرين الألمان استفادوا بشكل كبير من سعر الصرف المنخفض بشكل مصطنع.
يقول مصرفي سابق لمنطقة اليورو، كان عضوا في مجلس المحافظين في البنك المركزي الأوروبي في أوج أزمة الديون: "لا تزال ألمانيا عالقة في عقلية الأزمة ــ وهي قصة مفادها أن الألمان هم من كانوا يدفعون للجميع. سيكون من الصعب جدا على ميركل الإفلات من هذا الفخ وإقناع شعبها. من المؤكد أنهم لن يصدقوها".
وخفف خبراء الاقتصاد أيضا من توقعاتهم لما يمكن أن تحققه مشاريع مثل مشروع ميزانية منطقة اليورو أو صندوق النقد الأوروبي. على الرغم من أن أية دعامات جديدة ستساعد في تحقيق توازن في هياكل اليورو غير المتوازنة، إلا أن نطاقها وحجمها المحدود سيعني أنه يجب اللجوء إلى الدواء نفسه للبلدان الأضعف عندما تتعرض للركود. بالنسبة لدول مثل إسبانيا والبرتغال واليونان، كان هذا خليطا من التخفيضات المؤلمة في الأجور وتسريح الموظفين لمساعدة الصناعات على التنافس مع الشركات الألمانية. وهذه الشكاوى هي التي تؤجج فتيل انعدام الأمن الذي استغله الشعبويون المناهضون للتكامل الأوروبي، بدءا من إيطاليا وصولا إلى فنلندا.
حتى مع الخريطة الانتخابية الجديدة والمعقدة في ألمانيا، يقول صناع السياسة الأوروبيون إن الدوامة السياسية تحولت من البقاء على قيد الحياة إلى الانتعاش، وقدمت فترة خصبة لتحقيق التقدم بشأن تدابير سيستفيد منها مواطنو منطقة اليورو.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES