Author

الساعة المهنية .. ومحاور التغيير

|

منذ بدء البشرية والزمن محور مهم يستحق المراقبة والفهم لضمان البقاء، حتى تحولت مراقبة الطبيعة في العصور الغابرة لتقدير الأيام والفصول إلى توقيت عالمي مقنن وعامل مؤثر في الثورات الصناعية والتقنية في القرنين الأخيرين. من يقارن نظرات الشعوب بعامل الزمن يستطيع أن يفهم تأثير ذلك في كفاءة أدائهم وسلوكياتهم. ومع ذلك، هناك من يتجاهل هذه المسألة بالكامل بل يعيش في عزلة زمنية فوضوية لا قانون لها.
من هؤلاء تلك الشخصية التقليدية التي تستقي من حديثها المتكرر والمنفعل مرارة بائسة ونزاعا خفيا؛ عند إفصاحها عن التفاصيل تجد أن مشكلتها تكمن في الاستسلام لعوالم متناقضة تشغلها في نهاية الأمر عن دورها الإنتاجي الأساس. نعم، مثل هذا يحارب على جبهة المواضيع الجدلية في مجتمعه الصغير، ولديه قائمة أيضا من الساحات التي يناضل فيها "جدليا" عن أفكاره على مستوى الوطن والعالم. ربما يقضي الساعات يوميا في تبادل وجهات النظر والبراهين حول البنود المتراكمة لديه في آخر قائمة الأولويات، وليس في أولها. مواضيعه تتنوع بين كرة القدم والسياسة وتصل إلى الاقتصاد والمساواة بين الجنسين. لديه طموحات مهنية، حق له، ولكنها لا تدخل في قائمة المهام العملية لأن مستوى التركيز لديه لا يسعفه للانتقال بآماله الشخصية إلى خطة تنفيذية واقعية، معظم طاقاته مهدرة في آمال وهمية لا ترتبط مصيريا به كانت في الأساس وليدة لوجهات نظر أفراد آخرين. في نهاية الأمر ستجد أنه لا يعي توقيته المهني جيدا، لا يستطيع رصد الساعات التي انقضت ولا التخطيط لتلك التي ستأتي بعد، وبالتأكيد يعيش وقته المهني الإنتاجي دون سيطرة واضحة حتى ينتهي في نهاية اليوم ــــ والحياة ـــ بخسارتين عظيمتين: إنتاجية متدنية، وفرص غير مستثمرة.
تفاعل الفرد مع حديث المجتمع مطلب مهم، ولكن لابد من تقنينه بطريقة إيجابية. محاولة التأثير في القضايا العامة حق مشروع، ولكن المشاركة فيه تكون وفق ضوابط شخصية ينبغي ألا تتعارض مع الأهداف الحياتية. عملية ضبط المنظور الحياتي الذي يؤثر في تفاعلاتنا الشخصية مع ما يحدث حولنا ليست أمرا يحدث بالصدفة، وإنما أفكار وسلوكيات يمكن إدارته وتحسينه لنتائج شخصية ومجتمعية أفضل. أثر الإنتاج الفردي في الاقتصاد مثبت ويمكن بطريقة أو بأخرى ربط العلاقات الإنتاجية بين الفرد والكيان والاقتصاد ككل. وأثر الإنتاج الفردي في المجتمع أيضا قابل للقياس وإن كان أقل موضوعية في التناول وأكثر تعددا في الأساليب. المسؤولية الفردية لا تختص أساسا بمسؤوليات الفرد تجاه مجتمعه فقط وإنما تجاه نفسه أولا، ثم دائرته الأصغر "الأسرة" وكل ما يتسع بعدها من دوائر. وبوجود العلاقة السببية التبادلية بين عطاء الفرد وكفاءة المجتمع ومستوى المعيشة الذي ينتهي إليه هذا الفرد، يتحتم على الأفراد تقييم تفاعلاتهم مع مجتمعاتهم لتكون مسؤولة وفاعلة.
يمر الوطن اليوم بتغييرات تنموية كبرى لا يمكن تجاهلها، والتغيير ثابت في كل مجتمع متطور يسعى لتحسين فرصه ومستقبله. ومع التحسن الكبير في أدوات وقنوات تبادل المعلومة، أصبح نبض التغيير يسري في كل زاوية من زوايا التفكير ما يضخم ردود الفعل ويؤثر بالتالي في سلوكياتنا. من الحكمة متابعة هذه التغييرات ودعمها بالنقد البناء والفخر بها كذلك. ولو استطعنا التأثير "كل حسب موقعه" في التغيير بطريقة مباشرة تتعاظم المسؤولية بشكل أكبر وتزيد التوقعات على قدر العلاقة بين أدوارنا المنوطة بنا ونطاق التغيير. وتماما مثل مسؤوليات الفرد الأخلاقية والاجتماعية هناك مسؤوليات مهنية ـــ ذاتية ومجتمعية ـــ متوقعة، تتطلب منه أساسا أن يدير خططه وجهوده المهنية بما يكفل تحقيق أهدافه الشخصية التي ستعود بالنفع عليه وعلى غيره. أكبر الخسائر هي تلك التي تحدث بطريقة متضاعفة على مستوى الفرد والمجتمع في الوقت نفسه، وتواضع الإنتاجية مثال واضح لذلك.
ولكن ما مشكلة التزامن في الساعة المهنية التي تحدث هذا التأثير السلبي؟ وما الساعة المهنية أساسا؟ المقصود يرتبط بتفاعلات التوقيت والمسؤوليات التي ترتبط بالأنشطة المهنية التي تؤثر بشكل مباشر في القيمة التي يصنعها الفرد في المجتمع. المسألة لا ترتبط فقط بأداء ممتاز في مجال ما، وإنما بأداء ملائم في توقيت ملائم. ولأن هذه المصادر الثمينة "الوقت والإمكانات، وكذلك المهام التي يمكن إنجازها" مصادر ناضبة وغير متجددة، فإن المهني الذي لا يراقب ساعته باستمرار سيجد نفسه في وقت ما بعيدا عن كل المصادر والثروات التي أتيحت له. المشكلة أنه سيرى حينها أن مجهوداته المخلصة لم تصنع التأثير المتوقع ولم يخرج بعوائد مرضية على المستوى الشخصي ناهيك عن المستوى الاجتماعي.
من الأهمية أن يعي الفرد تفاصيل ساعته المهنية، كيف تعمل ومتى ستتوقف وماذا يجب أن ينجز مع كل دقة تمضيها عقاربها في مينائها الصغير. وفي الوقت نفسه أن يوفق بين ساعته المهنية وبين التغيير الذي يحدث في دوائره الاجتماعية، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا بضبط التغيير على المستوى الشخصي. التحسينات التنموية الكبرى ستجعل سجل الأحداث اليومي مكتظا باللحظات التاريخية، ولكنها لا تعني شيئا إذا عزل الأفراد أنفسهم لتكرار أصدائها ومناقشة آثارها دون أن يشاركوا فعليا في صناعة أدوارهم المنوطة بهم كوحدات منتجة في الخطة التنموية وكمحاور أساسية للتغيير.

إنشرها