Author

هل يمكن التعويل على خريجي كليات الأعمال؟

|

ما زلنا في موضوع مادة الثقافة المالية التي تنوي وزارة التعليم إقرارها على الطلاب والطالبات في المدارس والجامعات. فقد ذكرت من قبل بعض المعوقات التي ستواجه الوزارة عند إدراجها هذه المادة ضمن الخطط في الجامعات والمناهج في المدارس. فمصطلح "الثقافة المالية" متشعب ومتداخل وله علاقة بعدة علوم يصعب فصلها عن بعضها. كما أن هناك اختلافات بين إدارة أموال المنظمات التي تدرس في كليات الأعمال في الجامعات وبين إدارة أموال الأفراد التي يحظر تدريسها في كثير من الاقتصاديات بسبب سيطرة الرأسماليين منذ الأزل على خطط التعليم وتوجيهها من أجل أن يبقى الناس أميين في مجال المال ويرضوا أن يكونوا موظفين يعيشون على فتات الموائد ويستأثر غيرهم بالمال والثراء.
ونتيجة لإهمال مؤسسات التعليم تدريس التعليم المالي رسميا في المدارس والجامعات أصبحت الخبرات في هذا المجال ضعيفة للغاية بل فيها ندرة شديدة. فكل ما يتم عرضه وتعليم للناس في مجال التثقيف المالي لا يتعدى عدة نصائح هنا وهناك أو مقترحات ضررها أكثر من نفعها يقدمها بعض المجتهدين الذين يفتقدون القاعدة المعرفية والخبرات التراكمية.
نحن لا نريد نصائح، ولا مقترحات، ولا نريد أيضا ثقافة مالية بل نريد تعلميا ماليا يؤصل المصطلحات المالية ويبين لنا أصول التعامل مع المال التي لا تتغير مع الزمن، وآليات التشغيل التي تختلف من عصر لعصر. فالمال وطريقة تنميته والمحافظة عليه لها أصول معروفة منذ الأزل لا تتغير أبدا، الذي يتغير فقط الآليات. ولكن نتيجة لهذا التجهيل المتعمد لم يستطع الفرد التفريق بين ما هو أصل وما هو آلية تطبيق. لذا نرى هناك بعض القناعات الخاطئة التي استقرت في أذهان الناس توارثتها الأجيال في كثير من الاقتصادات ولكنها الآن عديمة الجدوى مثل أهمية الادخار، وضرر القروض، وتفضيل قيمة رأس المال على التدفق النقدي. كل هذه مفاهيم عفى عليها الزمن ولا تصلح لعصرنا هذا. علي سبيل المثال لم تعد عادة الادخار مناسبة كما كانت في السابق لأن الناس في العصور الغابرة كانوا يدخرون نقودا لها قيمة أما الآن فيدخرون عملات وهي عبارة عن أوراق يتداولها الناس يظنونها نقودا إلا أنها ليست كذلك لأنه لا يوجد ما يعادلها من الذهب.
لقد كانت مثل هذه المفاهيم تناسب العصر الزراعي والعصر الصناعي أما عصر المعلومات الذي نعيشه الآن فقد أصبحت من الأساطير التي ينبغي أن نكفر بها. ما أود أن أصل إليه أننا نريد من النشء معرفة أصول التعامل مع المال التي لم تتغير عبر العصور وفي الوقت نفسه يعرفون آليات التشغيل التي تختلف من عصر إلى عصر من أجل أن نبني جيلا يفكر في الاستثمار بطريقة رجال الأعمال وليس بطريقة موظفي الشركات والمنظمات أي بمعنى أدق نريد رواد أعمال وليس موظفين.
نعود لموضوع وزارة التعليم ومادة الثقافة المالية فنقول إن هناك سببا آخر لصعوبة الاستفادة من تطبيق هذه المادة في المدارس والجامعات ألا وهو ضعف المؤسسات التعليمية التي تقدم مثل هذا النوع من التعليم. إذا كانت الوزارة تعول على خريجي كليات الأعمال وترى أنهم من سيقومون بنقل ما لديهم إلى الأجيال فسأوفر عليهم الوقت وأقول لها إن خريجي كليات الأعمال أسوأ من يتعامل مع المال وليس لديهم الحد الأدنى من المعرفة المالية، بل يرتكبون كثيرا من الحماقات والتخبط المالي.
والأمر لا يقتصر على الطلاب والخريجين بل على الأساتذة أيضا، فغالبية أعضاء هيئة التدريس في كليات الأعمال مفلسون معدمون لا يعرفون كيف يستثمرون أموالهم فكيف يدربون غيرهم؟ لقد تكلمت وكتبت عن كليات الأعمال كثيرا وأشبعت الموضوع تحليلا وتفصيلا، وشاركت في مؤتمرات بأوراق عمل عن تخبط كليات الأعمال وما يدور فيها من خلل أكاديمي وأساتذة غير أكفاء وبرامج معوجة.
ولا أريد أن أكرر ما ذكرته عن هذه المؤسسات التي تعتبر عالة على الجامعات وثقلا بما تحويه من علم لا ينفع وجهل لا يضر. وأريد أن أختصر موضوع كليات الأعمال فأقول إنها مؤسسات تعليمية تصمم برامج لتخريج موظفين فاشلين ولا يوجد في برامجها ما يعد الطالب ليكون رجل أعمال أو مستثمر أو من أرباب العمل.
وإذا لم تدرك وزارة التعليم مثل هذه الحقائق فستواجه كثيرا من العقبات خصوصا إذا كان الهدف يتمثل في تغيير توجه النشء من الاعتماد على الوظيفة إلى التفكير كأرباب أعمال فلن تجد ضالتها في كليات الأعمال. أما إذا كان الهدف من إقرار هذه المادة سد نقص في الجدول الدراسي أو زيادة العبء التدريسي للمعلمين أو الإسهام في حل معضلة البطالة وإيجاد عمل لخريجي كليات الأعمال فهذا أمر آخر.
كما أن هناك حقيقية أخرى أظنها غائبة عن وزارة التعليم وهي ما يطلق عليه "فجوة التخلف". و"فجوة التخلف" تعني فجوة زمنية بين اقتراح فكرة جديدة ووضعها موضع التنفيذ. فإذا تم اقتراح فكرة اليوم وتم تطبيقها بعد خمس سنوات فإن مدة فجوة التخلف هنا هي خمس سنوات ما بين بزوغ الفكرة ووضعها موضوع التنفيذ والاستفادة منها. ولهذا تعد فجوة صناعة التعليم ثاني أطول فجوة تخلف بين القطاعات الصناعية الأخرى التي تقدر بـ 50 عاما. فما نناقشه الآن من أفكار ومنها الثقافة المالية في المدارس يستدعي منا الانتظار 50 عاما حتى نستفيد منها عندما توضع موضع التنفيذ ويتم تطبيقها.

إنشرها