Author

لغة التعليم .. بين العربية والإنجليزية

|

قد يبدو بديهيا أن تكون "العربية"، لغتنا الأم، هي لغة التعليم العام الرئيسة في مختلف أرجاء عالمنا العربي الكبير، وذلك إلى جانب "الإنجليزية"، أو أي لغة عالمية أخرى، كلغة ثانية تفتح آفاق الناشئة للتواصل مع العالم. لكن الأمر ليس كذلك تماما، فهناك على أرض الواقع مدارس خاصة عديدة، في مختلف الدول العربية، تتخذ الإنجليزية لغة رئيسة للتعليم العام، إلى جانب العربية كلغة ثانية. وللاختلاف بين هذين التوجهين حيثيات مختلفة يطرحها أصحاب كل طرف، ويجدون فيها قناعة تبرر ما ينظرون إليه.
أصحاب "العربية"، كلغة رئيسة للتعليم العام، يرون أنها ليست فقط لغتنا الأم، بل لغة القرآن الكريم، لغة الدين الإسلامي الحنيف. ويرون، بناء على ذلك، ضرورة إعطائها ما تستحق من الاهتمام، ليس فقط على مستوى التعليم العام الذي يتلقاه الناشئة العرب، بل أيضا على مستوى نقلها إلى العالمية، خصوصا أن المسلمين منتشرون في كل البقاع، وأن الإسلام رسالة موجهة إلى كل البشر، ويضاف إلى ذلك، حقيقة أثبتتها بحوث مختلفة وذكرتها "منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم: اليونسكو"، في وثيقتها حول "اللغة الأم" الصادرة عام 2008؛ وهي أن التعليم باللغة الأم يجعل المتعلم أكثر قدرة على استيعاب ما يتلقاه، وعلى التفكير والإبداع والابتكار فيه.
ثم هناك أيضا حقيقة مهمة أخرى، تطرحها اليونسكو، وهي ضرورة منع اللغة الإنجليزية من غزو اللغات الأخرى، في إطار توجه العالم نحو العولمة، لأن ذلك يؤذي التعدد الثقافي العالمي الذي يشكل ثروة معرفية مشتركة للعالم بأسره، عليه حفظها وحمايتها من الضعف أو الاندثار. ولعله من المفيد هنا الإشارة إلى أن غزو اللغة الإنجليزية للغات الأخرى يخيف ليس فقط لغات الدول الأضعف، بل يصل إلى لغات الدول الأقوى أيضا. ففي ثمانينيات القرن الماضي، على سبيل المثال، ومع تزايد انتشار تقنيات المعلومات، حذر الرئيس الفرنسي في ذلك الوقت، فرنسوا ميتران، من غزو اللغة الإنجليزية لغات العالم وثقافاته، وبالذات غزوها اللغة الفرنسية وثقافتها؛ وكان ذلك في خطاب له أمام "الأكاديمية الفرنسية" الجهة المسؤولة عن حماية الثقافة الفرنسية.
وننتقل إلى أصحاب التوجه الآخر الذين يرون في "الإنجليزية"، وليس العربية، لغة رئيسة للتعليم العام. هؤلاء ينظرون إلى اللغة الإنجليزية ليس كلغة غزو للغات والثقافات الأخرى، بل كلغة باتت على أرض الواقع "وسيلة مشتركة" للتواصل بين الناس في "عصر العولمة"، وعلى ذلك فإن اعتمادها كلغة رئيسة في التعليم العام يعزز التواصل بين الناس على مستوى العالم، وبالتالي لا يجوز اعتبارها "لغة غزو"، بل يجب النظر إليها كلغة جامعة للثقافات المختلفة. ويدافع هؤلاء عن اعتماد اللغة الإنجليزية في التعليم، على أساس أنها اللغة الأولى في مصادر المعلومات، سواء الورقية أو الإلكترونية المتاحة على الإنترنت. وفي إطار إدراك أهمية اللغة العربية، يرى هؤلاء أنهم يهتمون بها فعلا، من خلال اعتمادها كلغة ثانية في التعليم العام إلى جانب اللغة الإنجليزية.
لكل من التوجهين مؤيدون ومعارضون، لكنه من المفيد من أجل توضيح الصورة للجميع طرح مزيد مما توصلت إليه وثيقة "اليونسكو"، سابقة الذكر، بشأن "اللغة الأم"، ليس فيما يتعلق باللغة العربية تحديدا، بل ما يتعلق بأي لغة أخرى لأي شعب من شعوب الأرض. استندت الوثيقة إلى دراسات في التعليم ترتبط بأربع حالات رئيسة شهدت استخدام لغة أجنبية في التعليم، وشهدت أيضا استخدام اللغة الأم في هذا التعليم. وشملت هذه الحالات: دولة مالي Mali في إفريقيا؛ ودولة غينيا الجديدة بابوا Papua New Guinea الجزيرة الواقعة شمال أستراليا؛ و"دولة بيرو Peru في أمريكا اللاتينية؛ إضافة إلى دراسة توماس وكولير Thomas & Collier حول التعليم "ثنائي اللغة" للمهاجرين في الولايات المتحدة الأمريكية.
تؤيد وثيقة اليونسكو، على أساس الدراسات التي طرحتها، التعليم العام ثنائي اللغة Bilingual Education، وترى أن هذا التعليم يجب أن يكون مؤسسا على اللغة الأم Mother Tongue Based، وليس على أي لغة أجنبية، وتعتبر الوثيقة أنه كلما ازداد اعتماد التعليم العام على اللغة الأم أعطى نتائج تعليمية أفضل. وتقدم الوثيقة، في هذا المجال خمس فوائد رئيسة للتعليم العام ثنائي اللغة المؤسس على اللغة الأم، وتشمل هذه الفوائد: الحصول على أداء أكاديمي أفضل؛ وعلى نتائج أكثر تقدما في الرياضيات؛ إضافة إلى تفعيل أكبر للشراكة المعرفية بين الطلاب والمدرسين، وتعزيز الثقة والقدرة لديهم على نقل المعرفة والتفاعل معها.
ترى وثيقة اليونسكو أن اللغة الأم يجب أن تكون الأساس الذي يستند التعليم العام إليه، وتحبذ في ذات الوقت وجود لغة ثانية في هذا التعليم، ليس كمقرر بين مقررات المنهج الدراسي، بل كشريك يساعد على تلقي المعارف، وبالذات الأساسية منها، ليس فقط باللغة الأم، بل باللغة الثانية أيضا، ولا شك أن ذلك يحتاج إلى نماذج تعليمية مناسبة، يجري التخطيط لها، وإعداد الكوادر اللازمة لتنفيذها، إضافة إلى العمل على تحقيق ذلك. ولعل المدارس العربية التي تعتمد اللغة الإنجليزية كوسيلة أولى للتعليم فيها، تستطيع أن تأخذ دور الريادة في هذا المجال، وتبدأ من خلال ذلك بالعودة إلى العربية كوسيلة أولى في التعليم، مع استخدام اللغة الإنجليزية كشريك مساعد يحقق لها ما تسعى إليه، مع الالتزام باللغة الأم، والاستفادة من فوائدها.
نريد "للغتنا الجميلة" أن تكون الأساس الذي يستند إليه التعليم العام الذي يتلقاه الناشئة، وليس ذلك محبة لها وحماسة للانتماء إليها فقط، بل لأن في ذلك أيضا فوائد تعطي مخرجات تعليمية أفضل. ولا شك أن الاهتمام باللغات الأجنبية واسعة الانتشار، خصوصا اللغة الإنجليزية مطلوب أيضا، لأنها باتت فعلا وسيلة للتواصل مع العالم. ويبقى تحديد المدى الذي ندخل فيه اللغة الإنجليزية كلغة ثانية في التعليم العام، هذا المدى يحتاج إلى خطط جديدة تستفيد من تجارب الآخرين السابقة، وتنطلق من توجهاتنا الخاصة بمتطلباتنا، وتأخذ ما يجري من تغيرات جديدة من حولنا في الاعتبار. والأمل أن تكون "العربية" أساس التعليم العام في تنشئة أبنائنا، على أن نهتم بالإنجليزية بالقدر الذي يهيئ لهم التواصل مع العالم، والإسهام في تجدده المتواصل.

إنشرها