الدين العالمي يتفاقم .. بلغ 300 % من الناتج الإجمالي

الدين العالمي يتفاقم .. بلغ 300 % من الناتج الإجمالي

لا تبدو الأرقام والإحصاءات في أي قضية اقتصادية مثيرة للقلق والفزع دوليا، بقدر البيانات المتاحة حول حجم ومعدل الاقتراض في الأسواق المالية الدولية.
آخر البيانات المتوافرة بهذا الشأن تشير إلى أن إجمالي الدين العالمي للقطاعين العام والخاص بلغ 300 في المائة من إجمالي الناتج العالمي، فقد قفزت ديون الولايات المتحدة بمفردها من 5.8 تريليون دولار في عام 2001 إلى 20 تريليون دولار العام الماضي بزيادة تبلغ 250 في المائة.
ووفقا للبيانات الأمريكية فإن خدمة الدين الأمريكي بمفردها زادت بنحو 30 مليار دولار خلال الأشهر الستة الأولى من العام المالي 2017، بزيادة تقدر بـ 23 في المائة، وسط توقعات بأن تقفز خدمة الدين الأمريكي والدين العالمي خلال العام المقبل إلى مستويات أعلى بكثير، مع اتجاه المجلس الفيدرالي والبنوك المركزية في العالم إلى زيادة أسعار الفائدة.
وتطرح قضية الاقتراض العالمي تساؤلات حول قدرة الاقتصاد الدولي على التصدي لتلك المشكلة، أم أنه لم يعد من الممكن التصدي لها دون الإضرار بمعدل النمو العالمي؟ وإلى أي مدى بات الاقتراض آلية لتحقيق النمو في القطاع المصرفي وسوق الأسهم؟ وهل هي آلية مجدية أم مفتعلة؟ وماذا عن ظاهرة الشركات التي تستخدم فوائضها المالية أو تقترض لإعادة شراء أسهمها، وهل يضر هذا الاتجاه بالقطاع المصرفي بإيجاد انتعاش زائف في معدلات النمو لديه؟ أم أنه إجراء مقبول نسبيا حتى تستطيع المصارف تجنب أي أزمات مالية جديدة؟
"الاقتصادية" استطلعت آراء مجموعة من المختصين المصرفيين والأكاديميين لمعرفة مستقبل الدين العالمي والتداعيات الناجمة عن استخدام الديون لتعزيز التداول في الأسواق المالية..
الدكتور آرثر برايت المختص المصرفي والرئيس السابق للجنة المالية لبنك إنجلترا، يرى أن تلك الظاهرة بمقدار ما كانت سببا في الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008، إلا أن تفاقمها يعد إحدى نتائج الأزمة أيضا، مشيرا إلى أن طبيعة السياسات التي تم تبنيها من قبل الاقتصادات المتقدمة للخروج من هذا الوضع، أدت إلى استفحال قضية الاقتراض.
ويضيف برايت، أن "الإفراط في استخدام السياسات المالية كرافعة للنمو الاقتصادي ميز الفلسفة الاقتصادية في البلدان المتقدمة قبل وأثناء الأزمة المالية العالمية، بل إن تلك البلدان واصلت استخدام تلك الرافعة حتى بعد أن بدأت حدة الأزمة المالية في التراجع".
ويستدرك قائلا "الأرقام تكشف عن حجم مشكلة الاقتراض قبل الأزمة المالية، فخلال الفترة من عام 2000 إلى عام 2007 نما الدين العالمي من 250 في المائة من إجمالي الناتج العالمي إلى 275 في المائة، وهذا يعني أنه خلال سبع سنوات فقط أضاف المجتمع الدولي على نفسه عبئا يقدر بربع ناتجه الإجمالي، وكان يجب أن تمثل الأزمة العالمية فرصة للمجتمع الدولي لتعلم الدرس، لكن مخاوف السياسيين من الوقوع في فخ انكماش اقتصادي حاد، دفعهم إلى مزيد من الاقتراض على أمل أن يمول الاقتراض سوق الأسهم، ومن ثم ينتعش الاقتصاد العالمي، والآن نجد أنه خلال السنوات التسع الماضية زاد عبء الدين على الاقتصاد العالمي مرة أخرى بمقدار ربع ناتجه الإجمالي".
وأشار برايت إلى أنه لكي نتغلب على تلك المشكلة لا بد من تفضيل الاستثمار على الاستهلاك، وتقليص عمليات الاقتراض لتمويل الاستهلاك، وتبنى مزيد من السياسات المالية التوسعية، وهذا لا يعني بالضرورة زيادة العجز المالي، إنما تحقيق الاستفادة المثلى من الإنفاق العام والضرائب، وهذا يقود إلى الشرط الأخير للخروج من تلك الأزمة، وهو أن السياسات المالية بمفردها لا يمكن أن تحل مشكلة الديون، إنما الأمر يتطلب مزيدا من الإنصاف الاقتصادي في توزيع الثروة في البلدان ذات الاقتصاد المتقدم، على أن يترافق ذلك مع تعزيز القطاع الخاص ورأس المال وليس تمويل الديون عبر مزيد من الاقتراض.
الدكتور إليستر بارت أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة كمبريدج، يرى أن الفلسفة الكامنة وراء سيادة سياسة التيسير الكمي في أعقاب الأزمة المالية العالمية، تمثل قبولا عالميا بفكرة الاقتراض كآلية لإنعاش الاقتصاد الدولي، عبر تعزيز عمليات شراء الأسهم، لكنه يعتقد أن تلك الفلسفة وصلت الآن إلى منتهاها.
ويضيف بارت، أنه "إذا كان الغرض من توسيع نطاق الاقتراض العالمي تفادي الوقوع في فخ انكماش اقتصادي ضخم، فإن انخفاض أسعار الفائدة مثل عمليا العمود الفقري المساند لتلك السياسية، إذ يمكن القبول نسبيا بتوسيع نطاق الاقتراض لشراء الأسهم، وإذا كانت أسعار الفائدة منخفضة، فالعوائد المحققة من الأسهم ستكون كفيلة بسداد خدمة الدين وكذلك أصل الدين على الأمد الطويل، لكن المشهد بأكمله يختلف فقد تصبح سياسة الاقتراض لدعم سوق الأسهم "كارثية" عند ارتفاع معدلات الفائدة، بحيث تكون الأرباح المحققة من الأسهم غير كافية لسداد خدمة الدين ناهيك عن أصل الدين ذاته".
وأشار بارت، إلى أن المشكلة الأخرى تكمن في أن عملية الاقتراض لشراء الأسهم توجد في الحقيقة فقاعة زائفة وأوهاما بتحسن الأوضاع الاقتصادية، إذ يؤدي توافر السيولة وما يترافق معها من مضاربة خاصة المضاربات السريعة إلى ازدهار زائف في الأسواق المالية، لا يعبر عن واقع اقتصادي مادي ملموس بقدر تعبيره عن فوائض مالية في الأسواق.
وذكر بارت، أنه عند وصول تلك الفقاعة إلى أقصاها، وذلك عندما لا يكون في مقدرة المصارف إقراض مزيد من الأموال، فإن تلك الفقاعة الاقتصادية سواء كانت في سوق الأسهم أو سوق الأصول الأخرى كالعقارات تنفجر لتأخذ مجمل النظام الاقتصادي معها إلى حالة من الانكماش، سواء تمثل ذلك في خسائر مصرفية ضخمة، أو في قيام السوق بعملية تصحيح عنيفة عبر انخفاض ضخم في قيمة الأصول.
من جهتها، تعتقد ساندرا كوبين الباحثة الاقتصادية أن ظاهرة الاقتراض العالمي باتت كارثة حقيقية، لكنها تؤكد أن هناك فرصة للتعامل مع تلك الظاهرة بطريقة لا تؤدي إلى انهيارات اقتصادية مخيفة.
وتضيف أن "المعادلة الاقتصادية الدولية فيما يتعلق بالاقتراض على الرغم من هشاشتها، لا تزال بعيدة عن الانفجار السريع، وذلك نظرا لانخفاض معدلات التضخم على المستوى الدولي، خاصة في الاقتصاديات المتقدمة منذ عام 2007، لكن عندما تبدأ معدلات التضخم في الارتفاع فإن المعادلة الهشة ستنهار، فالبنوك المركزية لن يكون أمامها لمواجهة التضخم غير رفع أسعار الفائدة، وبالطبع سيستتبع تلك الخطوة موجة من الزيادة في الديون المعدومة، وتراجع في الاقتراض لتمويل سوق المال، ومن ثم انخفاض في قيمة الأسهم، والبديل الآخر هو الإبقاء على أسعار الفائدة منخفضة وفي هذه الحالة يفقد الاقتصاد الوطني ثقة رؤوس الأموال الأجنبية، ونشهد حالة من نزوح أو فرار رؤوس الأموال والمستثمرين الدوليين، ومن ثم يصبح الاقتصاد أمام الموت غرقا أو جفافا".
وتستدرك كوبين قائلة "في الوقت الحالي يستبعد معظم الاقتصاديين ارتفاع معدلات التضخم، لكن علينا أن نتذكر أنه قبل اندلاع الأزمة المالية عام 2008، نادرا ما أشار كبار الاقتصاديين إلى احتمال انفجار أزمة مالية عالمية، والتجربة برهنت أنه لا يوجد مستحيل في عالم الاقتصاد، وكبار المستثمرين لم يعودوا يعتمدون على تكهنات الاقتصاديين، لكن الأمر المؤكد أنه إذا انفجرت أزمة المديونية العالمية، فلن ينجو أحد".
ومع هذا لا تمثل تلك الآراء مجمل آراء المختصين والأكاديميين حول قضية الديون، فالبروفيسور توماس نيك أستاذ النقود والمصارق في جامعة أكسفورد والاستشاري السابق في صندوق النقد الدولي يتبنى وجهة نظر غير تقليدية في هذا الشأن.
ويوضح توماس نيك أنه يجب الإقرار بأن الدول كالأفراد يمكن أن تفقد القدرة على مواصلة الاقتراض، لكنها أيضا كالأفراد تتفاوت مقدرتهم على الاقتراض، فالاقتصاد الأمريكي والصيني والياباني وعلى الرغم من ارتفاع معدلات الدين لديهم، لا يزالون يتمتعون بقدرة ضخمة على مواصلة الاقتراض نظرا لقوة اقتصاداتهم وما لديهم من أصول، ومشكلة الدين المتراكم على تلك الدول لا يعني أنهم في سبيلهم للانهيار، لكن المؤكد أن ذلك سيكون على حساب معدلات النمو، إذ سيكون من الصعب في ظل استنزاف خدمة الدين جزءا متزايدا من الناتج المحلي الإجمالي تحقيق معدلات نمو مرتفعة.
ويضيف توماس نيك "في الاقتصاد الحديث لا مفر من اللجوء إلى الاقتراض لضمان التوسع الرأسمالي، ومن ثم فإن الدين في حد ذاته لا يعد مشكلة اقتصادية، إنما المشكلة تكمن في الطريقة التي يتم من خلالها استثمار القرض لتحقيق مزيد من القيمة المضافة في الاقتصاد الوطني، ويضاف إلى ذلك بالطبع قدرة النظام المصرفي على الإقراض دون أن يؤدي ذلك إلى إجهاد للمنظومة المصرفية".
ويرى البروفيسور توماس نيك أن الاقتصادات الكبرى تعلمت الدرس، وأنه عندما يصبح مصرف ما غير قادر على التعامل مع قضية الديون، فإنه يتم إغلاقه لكن بطريقة تتفادى ما حدث لبنك ليمان برذرر التي فجرت الأزمة المالية العالمية.
ووسط هذا الجدل حول قضية الديون تبرز الآن ظاهرة جديدة نسبيا في الساحة الاقتصادية الدولية تزيد الموقف تعقيدا، فعدد كبير من المصارف، والشركات الكبرى، يقوم بعملية إعادة شراء لأسهمه من أسواق المال، ضمن ما يعرف بمصطلح "المشاركة المالية"، ويقدر بعض المختصين الأموال التي أنفقت في هذا المضمار بالتريليونات.
آرثر برادلي المختص المالي في بورصة لندن، يعتبر العامل الداعم الأساسي لتلك الظاهرة، هو انخفاض أسعار الفائدة، ما يسهل على المصارف والشركات تمويل عمليات الشراء بتكلفة منخفضة نسبيا، كما أن ذلك يؤدي إلى انخفاض أعداد حاملي الأسهم، ما يرفع من معدل العائد ويوجد حالة من الانتعاش الاقتصادي.
ويضيف برادلي أن "الشركات المسجلة في مؤشر ستاندرد آند بورز 500 في بورصة نيويورك لديها فوائض مالية تقدر بـ 1.45 ترليون دولار، وفي ظل معدل فائدة يقارب الصفر ومعدلات نمو باهته، فإنه من الأجدى لتلك الشركات إعادة تدوير أموالها عبر شراء أسهمها مرة أخرى".
لكن بعض الاقتصاديين الكلاسيكيين يرون أن الاقتراض لشراء الأسهم سواء بالنسبة إلى الأفراد أو المصارف والشركات لا يدخل ضمن الاستثمار الرشيد، إذ يوجد انتعاشا اقتصاديا زائفا حتى إن كان معدل العائد يفوق معدل الفائدة على القروض.
وتنبع تلك القناعة من أن مثل هذا السلوك الاقتصادي يتنافى مع ضرورة أن يكون معدل النمو المحقق معبرا حقيقيا عن قوى السوق، عبر تفاعلها التلقائي وليس عبر التدخل "بحيل محاسبية" تهدف إلى إيجاد مناخ جاذب للاستثمار دون أن يكون هناك واقع حقيقي يساند هذا المناخ.
وبالتالي فإنه لا توجد ضمانات حقيقية بأن الاقتراض لتعزيز تداول الأسهم وسيلة حقيقية لتحقيق نمو اقتصادي مستقر على الأمد الطويل، بل إنه يمثل في عرف البعض عملية تعظيم زائف للعائد من الموارد المالية المحدودة أصلا، التي يجب استخدامها في أشكال استثمارية أكثر استقرارا وديمومة.

الأكثر قراءة