Author

الاستمتاع بالحياة على الطريقة الاسكندنافية

|
أستاذ جامعي ـ السويد
في خضم الصراعات والاضطرابات التي تعصف بنا كدول ومجتمعات، ناهيك عما ينتابنا من قلق وإزعاج وكدر وكآبة كأفراد، يبقى البحث عن الراحة والسكينة والسرور ومتعة الاستمتاع بالحياة هدفا صعب المنال. ويبدو أنه كلما زادت رفاهيتنا والتطور التكنولوجي والرقمي للأجهزة والأدوات التي تقوم بخدمتنا، تعاظمت حاجتنا إلى البحث عن طرق تخفف وطأة الحياة علينا. والشعوب التي تقطن الدول الاسكندنافية ربما هي أكثر شعوب العالم بحثا عن وسائل وطرق تمكنها من الاستمتاع بالحياة، وتلطف من الضغط الهائل للمدنية الحديثة عليها. لقد عانت هذه الشعوب الأمرين من الرفاهية المفرطة التي تتنعم فيها. وقد يقول قائل كيف نعاني ونحن مرفهون؟ المعاناة واضحة من النسب العالية للانتحار، والوحدانية وتفشي الأمراض النفسية مثل الكآبة. والشعوب هذه خلاقة، بمعنى أنها تحاول دائما استنباط طرق وأطر جديدة لمواجهة مصاعب الحياة التي يفرزها المجتمع المدني الحديث، الذي تلعب المادة دورا رئيسيا في حياته. قد لا تتسع المساحة المخصصة لهذا العمود لسرد التطبيقات الإلكترونية التي برمجها علماء اسكندنافيون لتسهيل المصاعب والعراقيل والمتاعب التي تقف حجر عثرة في طريق السعادة والاستمتاع بالحياة. وعندما نقول "الشعوب الاسكندنافية" فإننا نقصد دول شمال أوروبا مثل السويد والدنمارك والنرويج – التي تشترك في كثير من المكونات الثقافية واللغوية – وتضاف إليها فنلندا واسكتلندا. والطرائق الشائعة للاستمتاع بالحياة في هذه الدول قد لا تروق لشعوب أخرى، إلا أنها صارت مثار إعجاب كبير في مناطق كثيرة من العالم، لا بل قد لا أجافي الحقيقة إن قلت إنها في طريقها كي تصبح أو بالأحرى أصبحت بضاعة تجارية للتصدير. وهذا هو حقا الحال مع التطبيقات الرقمية في كيفية الاستمتاع بالحياة، والحصول على السعادة. هناك تغييرات جذرية تحدث في هذه المجتمعات أتت نتيجة سعيها الحثيث إلى الاستمتاع بالحياة خارج نطاق الرفاهية العالية التي تتمتع بها. مثلا، يكتفي أغلب الناس هنا – من ضمنهم الأغنياء جدا – ببساطة الملبس. لم أرَ مثلا أي أستاذ جامعي سويدي يأتي العمل في لباس رسمي. الكل تقريبا يلبس ما هو عادي، ولا يختلف كثيرا عن لباس الطلبة. والناس هنا لم تعد تحب الإفراط الذي ترى فيه سببا للشقاء وفقدان السعادة. في النادر ما يركب الناس السيارات الفارهة والكبيرة – ذات الدفع الرباعي. والمسافات القصيرة – عشرة كيلو مترات تعد مسافة قصيرة هنا – يقطعها الناس على الدراجات الهوائية ذهابا وإيابا، والمسافات الأقصر منها يقطعونها مشيا على الأقدام. لقد ظهر، حسبما يقدمونه من دراسات، أن المشي والجري وركوب الدراجة الهوائية تمكن المرء من الاستمتاع بالحياة، وولوج باب السعادة. وإن دخلت بيت أي سويدي تقريبا، وحتى الأغنياء منهم، ترى أن الأثاث من البساطة بمكان. غرفة الاستقبال الكبيرة فيها أريكة واحدة وكرسي للجلوس من أجل القراءة، وشاشة تلفزيون وسجادة صغيرة وفضاء خال واسع. الفضاء من الوسائل التي يحتاج إليها الإنسان كي يكون سعيدا، أو هكذا يتصورون. والبيت بالنسبة إلى السويدي مكان مقدس. الحجم ليس مهما أبدا، لأن الناس تفضل المنازل الصغيرة، لكن تركن أحذيتها عند الباب قبل الدخول إلى المنزل. وإن اجتمع الناس سوية – مجموعة من الأصدقاء – قلما يتكلمون أو يثيرون مسائل تخص الميول من جنسية أو دينية أو مذهبية أو سياسية أو عرقية، ونادرا ما يتحدث أي منهم عن ميوله أو نفسه بفخر، كأن يحكي عن إنجازاته. والسعادة في هذه المجتمعات تعني الابتعاد قدر الإمكان عن كل ما يثير الحساسية والأعصاب والنرفزة. يهرب الناس من العراك لفظيا كان أو بدنيا. وإن حدث مثلا أن قام شخص بالصياح أو حتى الإساءة اللفظية لشخص آخر، فنصائح السعادة تقول اتركه وشأنه ولا ترد، وغادر المكان بهدوء. وإن وقف الناس في طوابير أو كان عليهم انتظار وصول الحقائب في المطار مثلا، فلن يحدث أن يتذمر أي شخص، أو يحاول مزاحمة الآخر، أو إظهار أن صبره قد نفد. يخرج الناس الكتب أو الجرائد من حقائبهم الصغيرة أو الهواتف الذكية من جيوبهم ويشرعون في القراءة. الهدوء هو سيد الموقف. في كثير من المدارس والجامعات يدرس الطلبة سيكولوجيا الهدوء النفسي، أي كيفية الحفاظ على رباطة الجأش، وعدم الولوج في الرد والرد المضاد في حالات الاشتباك والخصام أو الشجار أو العراك. وميزة الهدوء خاصية مهمة يتصف بها الدبلوماسيون والسياسيون الاسكندنافيون، الذين قلما يدخلون في مشاحنات لفظية مهما كان الأمر. وإن أرادوا الرد فإنهم يفعلون ذلك بهدوء قل نظيره، أو من خلال تقديم مثال لما يجب أن تكون عليه الأمور، ما يحرج الطرف الأخر. والناس تحب الفضاءات كما قلنا، فترى أنها تتقاطر إلى الحدائق والبحيرات والغابات والمساحات الخالية، من أجل التأمل أو القراءة أو الرياضة. والتوسط والاعتدال ونبذ التطرف والمغالاة من الشروط الأساسية للتمتع بالحياة. لا بل تتعمد الناس الإفراط في الاعتدال والتواضع؛ والوسطية من أفضل السبل للحصول على السعادة. تعج الغابات الفسيحة في هذه الدول ببيوت صغيرة، تفتقر إلى الماء والكهرباء وأغلب وسائل الراحة الحديثة. هناك يمضي الناس أوقاتا طويلة يجمعون الحطب وينقلون الماء بالدلاء، ويعيشون أسابيع أو ربما شهورا كأنهم في عصور ما قبل الصناعة، كوسيلة للاستمتاع بالحياة.
إنشرها