الإدارة الجوهرية لاستقرار الاقتصاد الكلي (2 من 2)

يمكن أن تشمل تدابير التخفيف من مخاطر المالية العامة، فرض ضوابط وقيود مباشرة على المخاطر التي تتعرض لها المالية العامة. فعلى سبيل المثال، نجد آيسلندا تضع حدودا قصوى لمقدار الدين الذي يمكن للحكومات دون المركزية أن تتحمله، وتفرض هنغاريا قيودا على إصدار ضمانات جديدة. ويمكن أن تشمل هذه التدابير أيضا قواعد تنظيمية أو حوافز للحد من الممارسات المحفوفة بالمخاطر، فعديد من البلدان، مثلا، يشترط احتفاظ المصارف بهوامش رأسمالية وقائية لمواجهة الخسائر. وتفرض السويد رسوما تتعلق بالمخاطر على المستفيدين من الضمانات الحكومية. وفي بعض الحالات، يمكن تحويل المخاطر إلى أطراف ثالثة -على سبيل المثال شراء وثائق التأمين- وهو ما قامت به تركيا بالنسبة إلى الكوارث الطبيعية. ويمكن لحكومات البلدان التي تعتمد إيراداتها القومية على السلع الأولية أن تستعين كذلك بأدوات تحوطية لتثبيت سعر البيع مسبقا والوقاية من نوبات انخفاض الأسعار. وتمثل سندات الكوارث في المكسيك طريقة أخرى لتحويل مخاطر كوارث طبيعية معينة إلى المستثمرين. وعند وقوع كارثة معينة، يقوم المستثمرون بإعفاء الحكومة المكسيكية من الدين. وإذا لم تقع الكارثة، تستمر الحكومة في سداد أصل الدين والفائدة، تماما كما في حالة السندات العادية.
ينبغي لصناع السياسات أن يدرجوا في الموازنة التكاليف المتوقعة للمخاطر ذات الاحتمالية المرتفعة -على سبيل المثال، بالنسبة إلى ضمانات الائتمان في الولايات المتحدة وبالنسبة إلى عدم سداد القروض الطلابية في أستراليا- وينشئوا احتياطيا للطوارئ في الموازنة العامة للمخاطر المعتدلة والممكنة - على سبيل المثال، في الفلبين للكوارث الطبيعية - وينظروا في تجنيب أصول مالية لمواجهة التكاليف حال تحقق مخاطر أكبر، على سبيل المثال، صندوق التثبيت، الذي تتم مراكمة الأموال فيه عندما تكون عائدات النحاس مرتفعة.
وقد تكون بعض المخاطر أكبر مما يمكن تغطيته، أو أكثر تكلفة مما يسمح بالتخفيف من حدتها، أو ببساطة لا تكون معروفة على وجه الدقة. وعلى سبيل المثال، بعض المخاطر المستبعدة مثل الكوارث الطبيعية، التي تقع كل 100 عام، قد تكون قيمة التأمين ضد حدوثها مكلفة، أو قد لا تكون الأسواق سائلة أو عميقة بالقدر الكافي الذي يسمح للبلدان المعرضة لمخاطر كبيرة على مستوى السلع الأولية بالتحوط تماما من احتمالات هبوط الأسعار. وينبغي أن تأخذ الحكومات هذه المخاطر في الاعتبار عند وضع أهداف طويلة الأجل للدين الحكومي للسماح بهامش أمان، مع الاستمرار ضمن مستويات الدين المحددة في قواعد المالية العامة التي أرستها. وللتعرف على حجم الهامش المطلوب، من المفيد فهم ما قد تعنيه التقلبات المحتملة في متغيرات الاقتصاد الكلي والمالية العامة بالنسبة إلى مسار الدين العام. ونظرا لصعوبة التيقن من التنبؤات المتعلقة بهذه المتغيرات، فقد يتعين على البلدان النظر في اعتماد منهج قائم على الاحتمالية للتنبؤ بمسار الدين العام في سياق إدارة مخاطر المالية العامة.
ولابد أيضا أن تضع البلدان مناهج أكثر تطورا وتكاملا لتحليل مخاطر المالية العامة. وينبغي أن تستند الحكومات إلى الأدوات التقليدية لتحليل المخاطر، التي تركز غالبا على المخاطر المحتملة والمنفصلة، وإخضاع مواردها العامة دوريا إلى اختبارات قدرة المالية العامة على تحمل الضغوط، على غرار الاختبارات المستخدمة لقياس سلامة النظام المصرفي، وستسمح هذه الاختبارات للسلطات بتقييم عواقب مختلف أنواع الصدمات على أهم المتغيرات الاقتصادية الكلية، مثل أسعار الفائدة، وأسعار الصرف، وأسعار المساكن. ويتعين على السلطات أن تأخذ في الاعتبار أثر تفاعل الصدمات وتحقق الالتزامات الاحتمالية ذات الصلة في مستويات السيولة والاستمرارية والملاءة المتاحة للحكومة. وعلى سبيل المثال، يمكن أن تتضمن اختبارات قدرة المالية العامة على تحمل الضغوط سيناريوهات مماثلة لما حدث أثناء الأزمة المالية العالمية، عندما تعرضت الموارد العامة للآثار المجتمعة من أزمة المساكن والأزمة المالية والهبوط الحاد في النشاط الاقتصادي. وفي حال حدوث مجموعة من هذه الصدمات، فقد يرتفع الإنفاق على شبكة الأمان الاجتماعي بدرجة كبيرة، بينما ينخفض الدخل القومي انخفاضا حادا، ومن ثم الإيرادات الضريبية.
وعند تصميم استراتيجيات لإدارة مخاطر المالية العامة، ينبغي كذلك مراعاة تكاليف التخفيف من حدة هذه المخاطر. ويجب أن يستنير التحليل بالبيانات المتعلقة باحتمالية حدوث هذه المخاطر، وعواقبها الاقتصادية الكلية، وأفضليات المجتمع. فقد تفضل بعض المجتمعات برامج الإنفاق ذات المنافع قريبة الأجل للسكان، مثل الاستثمارات العامة، بدلا من رصد المخصصات للإسهام في معالجة تبعات الكوارث الطبيعية المحتملة. وفي بعض الحالات، ربما لا يكون من المفضل القضاء على كل المخاطر. فقد يقتضي إنهاء كل المخاطر المحيطة بالمالية العامة، مثلا، التأمين على الودائع وزيادة رأس المال الإلزامي، ما قد يعيق الإقراض المصرفي والنمو الاقتصادي بلا داع.
عند بذل الجهود لتعزيز تحليل وإدارة مخاطر المالية العامة، ينبغي أن تراعي الحكومات تباين قدرات البلدان في تناول العمليات المتطورة للمتابعة والتحليل الكمي للمخاطر المحيطة بمالياتها العامة.
وعلى سبيل المثال، ينبغي أن تستهدف البلدان ذات القدرات المحدودة في هذا المجال أولا إعداد ميزانيات عمومية مالية أساسية، ووضع قواعد أساسية لمدى حساسية مواردها العامة لأهم المتغيرات الاقتصادية الكلية، وتعميق فهمها الالتزامات الاحتمالية الرئيسة وتحسين مستوى الإفصاح عنها. أما البلدان ذات القدرات العالية فيمكنها التركيز على الإفصاح عن حجم واحتمالية تحقق التزاماتها الاحتمالية، وعلى إجراء اختبارات دورية للقدرة على تحمل الضغوط لتقدير مدى تعرضها لمخاطر وقوع أحداث متطرفة.
وينبغي كذلك صياغة استراتيجيات التخفيف من مخاطر المالية العامة حسب قدرات كل بلد على حدة. فينبغي أن تركز البلدان ذات القدرات المنخفضة على الحد من تعرضها لمخاطر الضمانات، والشراكات بين القطاعين العام والخاص، وغير ذلك من الالتزامات الاحتمالية الصريحة، وذلك من خلال تطبيق ضوابط مباشرة وحدود قصوى. أما البلدان ذات القدرات العالية فيمكنها الاستفادة بفعالية أكبر من القواعد التنظيمية والحوافز وأدوات تحويل المخاطر، إضافة إلى الإقرار بالمخاطر المتبقية، ورصد المخصصات لها في موازناتها وخططها للمالية العامة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي