مهنيون أثرياء

لا يقتصر تحقيق الثراء على رجال الأعمال العصاميين والمحظوظين فقط، بل يحقق كثير من الموظفين الثراء السريع وبقدر أقل من المخاطر بكثير. لن يمتلك الموظف الثري ناطحات سحاب ــ إلا إذا كان يقوم بعمل غير شرعي ــ ولكنه يستطيع أن يحظى بدرجة طيبة من الثراء التي تجعله في الجانب المريح من المعادلة، أي الحرية المالية التامة، حيث يضمن التعليم المتميز لأبنائه والسكن المريح والتقاعد الفاخر. والمميز أن هذا الثراء الناتج عن العمل المهني ثراء متكامل، إذ يشمل الجوانب المادية والاجتماعية والمعرفية، وبدرجة أهم التأثير الإيجابي في المجتمع بالممارسات المتقنة المتخصصة التي تصب في تحسين أداء المجال الذي يعمل فيه، وحياة المستفيدين من هذا العمل.
وجدت من المهنيين من يملك بضعة استثمارات جيدة، من يستطيع أن يتقاعد مبكرا مقارنة بغيره، ومن يحقق دخلا محترما يزيد على معدل الرواتب في محيطه العمري بأكثر من الضعف، نعم، ربما ضعفين أو ثلاثة أو أكثر. وهذا الأمر لا يتحقق في "مانهاتن" نيويورك أو "كناري وارف" لندن فقط، وإنما في الرياض وجدة والدمام وغيرها من مدن المملكة. يفاجأ كثيرون ــ ولا يصدقون أحيانا ــ عندما يسمعون أن فلانا يحصل على دخل يصل إلى 30 أو 40 وحتى 100 ألف من الريالات شهريا، بل من هول المفاجأة يرمونها على الفساد. لا أحد يتفق مع المبالغة في الرواتب عند نقص الكفاءة، فهذا يمثل غياب صارخ للعدل يجر عديدا من الإشكالات الأخرى، ولكن في أسواق المواهب والإنتاجية العالية والمتقنة يختلف الأمر. العبرة تكون دائما حسب العرض والطلب على أثمن ما يملك البشر على وجه الأرض اليوم، وهي المعرفة التي يمكن ترجمتها إلى مهارات وممارسات تصنع القيمة وتحقق الفارق.
هناك من وصل إلى درجة التميز المهني التي تمكنه من تحقيق دخل عال ثابت في وقت مبكر، وهو يتعدى في كثير من الحالات ما كانت تصل إليه الصورة النمطية المقتصرة على الطب والهندسة. يتحقق هذا، إضافة إلى الطب والهندسة، في الوظائف الإبداعية والفنية كالتصميم والإعلام والرياضة؛ مثل البرمجة والخدمات الاكتوارية، والمالية مثل المحاسبة والاستثمارات، والقانونية كالمحاماة. العبرة في نظري ليست بالانتماء إلى مجال محدد ولكن بالوعي والتنبه إلى عناصر التميز المهني. تتشابه القواعد إلى حد كبير بين التخصصات، فالاهتمام الذي يصنع الحافز ويحرك الأمور هو المطلب الأهم.
بعيدا عن التحديات التنموية مثل مواءمة برامج التعليم وسوق العمل أو كفاية ما يتاح من وظائف الخدمة المدنية للعموم، تختلف الزاوية الشخصية بشكل جذري عن نقاشات إرهاصات سوق العمل. فالشاب الواعي يجب أن يستهدف النجاح والتميز سواء كانت هناك مشكلة مواءمة في تخصصه أو لم تكن. بل إن زيادة تحديات سوق العمل تعني أن مزيدا من الجهد الشخصي مطلب لتجاوز العوائق، وليس أن بذل الجهد لا يصنع الفارق! إن أسوأ ما يمكن القيام به حينها هو الانتظار حتى تعلن جهة حكومية ما عن وظائفها الجديدة!
ما عناصر النجاح المهني التي ترفع من احتمالات تحقيق الثراء؟ أعتقد أنها خماسية جوهرية تحقق الفارق حتى لو كان الشخص موجودا في بيئة غير مشجعة، سواء كانت الجامعة أو الشركة أو المدينة التي يعمل فيها. المطلب الأول أن يحقق الفرد درجة معقولة من الوعي الذاتي وما يشمله من إدارة للأهداف الشخصية ليتمكن بها من الربط بين أحلامه وواقعه. المطلب الثاني، أن يتمكن من إعادة شحن طاقاته بشكل مستمر، وذلك لأن المثبطين والمكتئبين ينتشرون حولنا، ولن يتحرك إلا بالقدرة المستمرة على إعادة البناء والتوجيه. إعادة الشحن تتطلب وجود حافز شخصي يتجدد حسب رغبة الشخص وإرادته وليس مجموعة من الحوافز اللاإرادية التي تأتي وتذهب حسب الأجواء. المطلب الثالث أن يملك قرار وشجاعة التغيير، سواء كان التغيير في التخصص أو مكان العمل أو تغيير سلوكيات محددة يعرف جيدا أنها لا تنفعه ويحتاج إلى بدائل لها. المطلب الثالث، أن يرسم خطة محددة الملامح ولكنها مرنة قابلة للتغيير، يحدد فيها مسارا مهنيا يلبي طموحاته ويحقق له المنفعة التي يود تحقيقها. المطلب الرابع، أن يستعد ويتقبل البذل والتضحية والانضباط. منطقيا، لا يمكن تحقيق النتائج الجيدة إلا بعمل مكافئ لها في الحجم والجودة. وأخيرا، المطلب الخامس، أن يندمج في سياق (مكان، أشخاص، معلومات) يمكنه من تنفيذ خططه. من المثير للعجب أن هناك من يتمنى حصول أمر محدد ولكن يوجد في سياق مختلف، فلا يتواصل مع أصحاب العلاقة ولا يوجد في المكان المطلوب، ودائما ما يأتي في الوقت غير المناسب، وهذا بالطبع لا يتقدم أي خطوة تجاه تحقيق الثراء ولا يحقق حتى أبسط مراحل النجاح المهني.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي