إحالة تحصيل رسوم الأراضي إلى وزارة المالية «2 من 2»

تأكيدا للأهمية القصوى لإحالة تحصيل إيرادات الرسوم على الأراضي البيضاء إلى وزارة المالية (الهيئة العامة للزكاة والدخل)، كخيار أفضل لا يمكن مقارنته بوضعه الراهن تحت إدارة وزارة الإسكان، التي لا تتوقع أن يتجاوز سنويا سقف ملياري ريال، على الرغم من الوفرة المالية الهائلة جدا الممكن تحقيقها من هذا المصدر المهم للدخل المالي، الذي تم الإثبات في الجزء الأول لهذا المقال؛ إمكانية رفع متحصلاته إلى نحو 111 مليار ريال خلال أول سنة مالية، أي نحو 56 ضعف المبلغ الذي ذهبت إليه التقديرات المتدنية جدا لوزارة الإسكان.
تتجاوز أهمية تحقيق هذا التحول المالي المطلوب، مجرد تحقيق الهدفين اللذين تمت الإشارة إليهما في الجزء الأول، وصولا إلى الارتقاء بأداة رسوم الأراضي إلى المستوى الحقيقي، المخطط له أن يسهم فعليا في معالجة السبب الأول والأثقل الكامن وراء الأزمة الإسكانية الراهنة، بدءا من اتساع دائرة احتكار الأراضي، التي وصلت سيطرتها إلى نحو 91.0 في المائة من إجمالي مساحاتها داخل المدن والمحافظات، وانتهاء بالمضاربات المحمومة على الجزء اليسير المتبقي منها القابل للبيع والشراء، وكيف أدى هذا الخلل إلى تصاعد أسعار الأراضي خلال أقل من عقد من الزمن لأعلى من عشرة أضعاف مستوياتها العادلة، والابتعاد بها عن قدرة أغلب أفراد المجتمع، بمن فيهم حتى أصحاب الدخل المرتفع، فما بالك بمن دونهم من أصحاب الدخل المتوسط والمتدني!
إن تجاوز الهدفين المتمثلين في: (1) أن زيادة متحصلات إيرادات الرسوم على الأراضي البيضاء، ستسهم في زيادة القدرة المالية العامة على مستوى زيادة تمويل احتياجات وزارة الإسكان بنسب مضاعفة، وهو ما تفتقر إليه وزارة الإسكان في الوقت الراهن. (2) أن ارتفاع كفاءة تحصيل الرسوم على الأراضي البيضاء، سيسهم فعليا في ضرب احتكار الأراضي بيد قاسية جدا من حديد، وهو ما سيتسبب بدوره في خفض الأسعار المتضخمة بشكل ملموس وحقيقي، الذي سينعكس في نهاية الأمر إيجابيا على جهود ومشروعات وزارة الإسكان، عبر خفض تكلفة التشييد والبناء والتطوير عليها وعلى شركائها من شركات التطوير العقاري حتى الممولين، إضافة إلى الاستفادة المتوقعة لكثير من شرائح المجتمع ذوي الدخل المتوسط فأعلى، الذين لن يضطروا للتقديم على وزارة الإسكان نظير انخفاض الأسعار، واستقرارها في مستويات عادلة ومناسبة لدخلهم وقدرتهم المالية. أقول إن ما وراء هذين الهدفين من مكتسبات يراد تحقيقها على وجه السرعة، لا يقل أهمية على الإطلاق بالنسبة للاقتصاد الوطني والمجتمع، ويكفي القول هنا إنها مكتسبات وغايات تنموية واسعة الآفاق والمنافع، ستكفل لنا جميعا رأب الآفات والآثار الخطيرة التي وصلت إليها حتى تاريخه على المستويات كافة، سيسدي لاقتصادنا ومجتمعنا على حد سواء إغلاقها عوائد تنموية لا يمكن حصرها بأرقام وتقديرات اليوم.
لعل من أخطر ما خلفته سيطرة يدي الاحتكار والمضاربات على الأراضي، ما يلي: (1) عزل الأراضي كأحد أهم أصول الإنتاج عن الانتفاع والاستخدام والتطوير والإحياء، الذي لأجله خلقها الله وأوجدها، لا لأجل الاكتناز والاحتكار فقط، حتى أصبح حفظ الأموال والثروات الطائلة في الأراضي والمضاربة عليها نشاطا منفصلا تماما عن الاقتصاد الوطني، وبعيدا كل البعد عن تلبية احتياجات التنمية والمجتمع، وهو المختلف تماما عن تطوير الأراضي وإنشاء العمران عليها، ما يعني أنه حتى نشاط التطوير العقاري تضرر أيضا من ارتفاع تكلفة الأرض عليه، بل إن عديدا من شركات التطوير العقاري إما تحولت عن نشاطها الرئيس إلى الاحتفاظ بالأراضي والمتاجرة فيها، أو توقفت عن ممارسة نشاطها لضعف مواردها المالية من جهة، ومن جهة أخرى لارتفاع تكلفة الأراضي عليها، ومواجهتها كثيرا من المعوقات الأخرى كارتفاع تكلفة اليد العاملة نتيجة برامج التوطين الأخيرة.
(2) وتسببت أيضا - ما لا يقل خطورة عن النتيجة الأولى ـــ في حرمان الاقتصاد الوطني والمجتمع من توظيف تلك الأموال والثروات في قنوات الإنتاج والتشغيل والعمل، ويعظم المصاب هنا إذا علمنا أنها ثرواتٌ تفوق مئات المليارات من الريالات، إن لم تكن في خانة تريليونات الريالات! ولا حاجة هنا إلى الحديث عن الآثار الخطيرة جدا لحرمان البلاد والعباد من استثمار تلك الثروات الهائلة، التي قد يفوق حجمها بأرقام الوقت الراهن حجم الاقتصاد الوطني برمته، وكم فاتنا سابقا والآن وسيفوتنا غدا من الفرص الاستثمارية المجدية التي لم تستثمر أو تستغل، لينتج عنها تنويع قاعدة الإنتاج المحلية، وتوفير مئات الآلاف من فرص العمل الكريمة، وبتحقيق هذين الهدفين فقط يمكن أن يتعزز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، وأن نشهد نموا اقتصاديا مستداما ومتينا، يمكن أن يجنبنا جميعا الاعتماد المفرط على إيرادات النفط.
ويخشى مما تقدم أن يشهد اقتصادنا توقف كثير من ملاك الشركات والمؤسسات في القطاع الخاص عن نشاطاتهم، والتحول نتيجة انخفاض تكلفة اكتناز الأراضي والمتاجرة فيها من جانب، ومن جانب آخر ارتفاع تكلفة الإنتاج والتشغيل (ضرائب، رسوم... إلخ)، وهنا مكمن الخطورة الأشد وقعا على الاقتصاد الوطني، الذي ستعجز أي سياسات أو أدوات اقتصادية عن التصدي له ولآثاره الوخيمة، بدءا من ارتفاع معدلات التضخم والبطالة، وانتهاء بانخفاض الأداء الاقتصادي ومستويات الدخل الحقيقي للأفراد، وزيادة تفاوت الدخل بين شرائح المجتمع.
ولا تقف أهم الآثار والأسباب عند ما تقدم ذكره فقط، بل تجاوزته إلى أبعد من ذلك بكثير، إلا أنه من أكثرها خطورة نظرا لضيق المجال المتاح هنا؛ (3) تسببت زيادة تدفقات الأموال على اكتناز الأراضي والمضاربة عليها، في زيادة معدل التضخم واستمراره في الارتفاع دون قيد أو شرط، ذلك أن استمرار ارتفاع أسعار الأراضي نتيجة لما تقدم ذكره، أدى إلى ارتفاع تكلفة الإيجارات سواء على السكان المستأجرين، أو على ملاك الشركات والمصانع والمؤسسات والمحال التجارية وخلافه، لترتفع على أثره كلٌ من تكلفة المعيشة وتكلفة الإنتاج، ودخول الاقتصاد والمجتمع في حلقة مفرغة من ارتفاع الأسعار! والمصدر الأخطر هنا لكل هذا التضخم غير المبرر في الأصل، كامن في داء احتكار الأراضي والمضاربة عليها، الداء الذي تسبب في إلحاق الأذى الشديد بمقدرات البلاد والعباد، إلا العدد المحدود جدا من المنتفعين منه.
ختاما؛ يكمن نجاح أي سياسات أو برامج اقتصادية بدرجة كبيرة في استباقها لأي أزمات أو تحديات تنموية، فيما قد تتعرض للفشل الذريع حال تأخرها عن تحقيق ذلك الأمر، وقد تأتي تكلفة معالجة الآثار والعواقب هنا أعلى وأكثر تعقيدا، وهو ما يؤمل استدراكه في مواجهة ما يتم الحديث عنه هنا، وضرورة أن يتم وضع الأمور في نصابها السليم، لتقوم وزارة المالية (الهيئة العامة للزكاة والدخل) بما يصب فعليا في صلب مهامها ومسؤولياتها، ممثلا في اضطلاعها بتحصيل إيرادات الدولة كما يجب أن يكون، وأن تتفرغ وزارة الإسكان لأداء مهامها التنموية المتعلقة بحل أزمة الإسكان، والأخذ بعين الاعتبار محدودية تجربتها وخبرتها من جانب، ومن جانب آخر ضخامة ملف وتحديات العقار والإسكان، وأن الإجراء المهم الجاري الحديث عنه هنا، سيكون أحد أهم الإجراءات الداعمة والمساندة لوزارة الإسكان بالدرجة الأولى. والله ولي التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي