إعادة التفكير في إجمالي الناتج المحلي (1من 2)

ما أهمية النمو الاقتصادي؟ يجيب الاقتصاديون عن هذا السؤال بأن النمو الاقتصادي يقيس مكونا مهما من مكونات التقدم الاجتماعي ـــ ألا وهو الرفاهية الاقتصادية، أو مدى استفادة أفراد المجتمع من طريقة استخدام الموارد وتخصيصها. ولعل نظرة إلى إجمالي الناتج المحلي للفرد على المدى الطويل تحكي لنا حكاية الابتكار والإفلات من فخ مالثوس المتمثل في تحسن مستويات المعيشة الذي يقيّده حتما النمو السكاني.
ويكتسي نمو إجمالي الناتج المحلي أهمية كبيرة كذلك. فهو يرتبط ارتباطا وثيقا بتوافر الوظائف والدخل اللذين يمثلان عاملين حيويين لمستوى معيشة السكان وترتكز عليهما قدرتهم على تحقيق نوعية الحياة التي يقدّرونها. (راجع دراسة Sen 1999). غير أن إجمالي الناتج المحلي ليس كيانا طبيعيا، على الرغم من أنه أصبح الآن اختصارا شائعا يستعمل في الحياة اليومية للإشارة إلى الأداء الاقتصادي. كما أنه لا يمكن قياسه بأي طريقة دقيقة، على عكس الظواهر التي تحدث في العالم المادي. وعندما يتوقف الاقتصاديون وخبراء الإحصاء للتفكير فيه، فإنهم يعلمون أنه معيار غير تام لقياس الرفاهية الاقتصادية وينطوي على أوجه قصور معروفة جيدا. ولعل الرواد الأوائل في مجال المحاسبة القومية، من أمثال سايمون كوزنتس وكولين كلارك، كانوا سيفضلون قياس الرفاهية الاقتصادية. ولكن أصبح إجمالي الناتج المحلي هو السائد نظرا لأن الطلبات في وقت الحرب استلزمت مقياسا للنشاط الإجمالي. وبالتالي تعرض مفهوم إجمالي الناتج المحلي منذ بداياته الأولى للانتقاد. غير أن الكلام عن الخروج بمقياس أفضل للرفاهية أمر، وتحقيقه أمر آخر.
يقيس إجمالي الناتج المحلي القيمة النقدية للسلع والخدمات النهائية ـــ أي تلك التي يشتريها المستخدم النهائي ـــ التي يتم إنتاجها واستهلاكها في بلد ما في فترة زمنية معينة. وتتمثل حدود إجمالي الناتج المحلي كمقياس للرفاهية الاقتصادية في أنه يسجل المعاملات النقدية إلى حد كبير بأسعارها السوقية. ولا يشمل هذا المقياس، مثلا، المؤثرات الخارجية البيئية من قبيل التلوث أو الضرر الذي يلحق بالأنواع، نظرا لعدم وجود من يدفع ثمنها. كما أن هذا المقياس لا يتضمن التغييرات التي تطرأ على قيمة الأصول، مثل استنفاد الموارد أو فقدان التنوع البيولوجي، ولا يستبعد إجمالي الناتج المحلي هذه التغيرات من صافي تدفق المعاملات خلال الفترة التي يغطيها.
وأصبح السعر البيئي للنمو الاقتصادي أكثر وضوحا وأعلى. فالسحابة الدخانية فوق بيجين ونيودلهي، وأثر التلوث في الصحة العامة والإنتاجية في أي مدينة كبرى، والتكاليف الناجمة عن تزايد وتيرة الفيضانات التي لا تزال البلدان غير مستعدة لمواجهتها على النحو الملائم، إنما توضح الفجوة بين نمو إجمالي الناتج المحلي والرفاهية الاقتصادية.
ولهذا السبب يعمل الاقتصاديون وخبراء الإحصاء على استحداث تقديرات لرأس المال الطبيعي ومعدل خسارته (World Bank 2016). وعندما ينجزون ذلك، سيتضح أن نمو إجمالي الناتج المحلي القابل للاستمرار الذي يمكّن الأجيال المقبلة من الحفاظ على مستوى استهلاك الجيل الحالي على الأقل، أقل من نمو إجمالي الناتج المحلي المسجل خلال سنوات عديدة. غير أن إدراج هذه القياسات الجديدة في نقاش السياسات السائدة وانعكاسها في الخيارات السياسية، يمثل مسألة أخرى.
وبالفعل، يغفل إجمالي الناتج المحلي الأصول الرأسمالية بكل أنواعها، بما في ذلك البنية التحتية ورأس المال البشري؛ فهو في جوهره معيار قصير المدى. وقد برهنت السياسات الاقتصادية التي تهدف إلى تحقيق النمو على صحة المقولة الشهيرة لجون ماينارد كينز المهندس الفكري لتلك السياسات، إذ قال: "على المدى البعيد، سنموت جميعا".
وبعد 70 عاما، أصبح هذا المدى البعيد وشيكا. فأي مقياس عام لاستمرارية النمو الاقتصادي، وبالتالي الرفاهية الاقتصادية على المدى الطويل، ينبغي أن يأخذ في الاعتبار الأصول الاقتصادية، فضلا عن التدفقات المحسوبة في إجمالي الناتج المحلي، الحاجة إلى صيانة البنية التحتية أو تسجيل انخفاض قيمتها مع تدهور حالة الجسور وظهور حفر في الطرق. وينبغي لأي ميزانية عمومية وطنية حقيقية أن ترصد الخصوم المالية المستقبلية، مثل معاشات التقاعد الخاصة بالدولة. كما ينبغي أن تشمل أيضا الزيادات في رأس المال البشري التي تتحقق مع حصول عدد أكبر من الناس على مستوى تعليمي أرقى واكتسابهم مهارات أفضل. ويتعين حساب الرفاهية الاقتصادية على أساس صاف باستبعاد التغيرات التي تطرأ على قيمة الأصول القومية.
من أوجه النقد الموجهة منذ أمد بعيد للاعتماد على إجمالي الناتج المحلي باعتباره مقياس النجاح الاقتصادي هو استبعاده العمل غير مدفوع الأجر داخل الأسر المعيشية. ويجب أن يكون هناك تعريف مقبول لما يشكل جزءا من الاقتصاد ويمكن قياسه وما هو ليس كذلك. ويطلق الاقتصاديون على ذلك اسم "حدود الإنتاج ". وينطوي ما يندرج ضمن هذه الحدود وما يخرج عنها حتما على أحكام تقديرية. وقد تمحور أحد النقاشات المبكرة حول ما إذا كان ينبغي إدراج الإنفاق الحكومي ـــ على أساس أنه استهلاك جماعي ـــ أو استبعاده ـــ على أساس أن الحكومة تدفع مقابل أشياء مثل الطرق والأمن التي تشكل مدخلات في الاقتصاد (شأنها شأن النفقات التجارية) وليس سلعا استهلاكية أو استثمارية. وتناول أحد النقاشات الرئيسة الأخرى كيفية تعريف السلع والخدمات المنتجة ـــ وفي كثير من الأحيان المستهلكة أيضا ـــ داخل الأسر المعيشية. فأدرجت السلع المنتجة داخل المنزل مثل الأغذية، نظرا لسهولة بيع وشراء هذه السلع في الأسواق في كثير من البلدان، خلافا للخدمات التي توفر داخل المنزل مثل أعمال التنظيف ورعاية الأطفال. وبما لا يثير الاستغراب، دائما ما ندد الباحثون في مجال الشؤون النسوية بأن العمل الذي تقوم به المرأة أساسا لا يقدر بأي قيمة بالفعل. ووافق كثير من الاقتصاديين على ذلك من حيث المبدأ، ولكن يرجع هذا الاختلاف جزئيا لأسباب عملية، حيث إن إجراء مسح لخدمات الأسر المعيشية مهمة شاقة، وقلما يتم شراء هذه الخدمات في الأسواق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي