بقعة «عمياء» تحجب رؤية الأزمة المالية التالية

بقعة «عمياء» تحجب رؤية الأزمة المالية التالية

كان هناك نقاش ساخن الأسبوع الماضي حول مدى السرعة التي ينوي بها الاحتياطي الفيدرالي رفع أسعار الفائدة. وفي الوقت الذي يتطلّع فيه المستثمرون إلى المستقبل، يبقى الوقت مناسبا أيضاً لإلقاء نظرة على الماضي والتساؤل، لماذا كانت أسعار الفائدة منخفضة جداً في هذا العقد؟
الرأي الشائع عادة ما يُلقي باللوم على عاملين. الأول، أن البنوك المركزية مثل الاحتياطي الفيدرالي خفّضت عمداً أسعار الفائدة من خلال تجارب مذهلة في التسهيل الكمي. والآخر، أن أسعار الفائدة انخفضت بسبب لعنة "الركود طويل الأمد"، العبارة التي صاغها أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد، لورنس سَمَرْز.
بشكل أكثر تحديداً، يُجادل سَمَرْز وآخرون بأن الاقتصاد العالمي يُعاني انخفاضا هيكليا صارخا في الطلب الكلي. بالتالي، أسعار الفائدة المنخفضة "أو السلبية" في السوق هي نتيجة، وإشارة، لتوقعات المستثمرين الجماعية بشأن الكآبة الاقتصادية في المستقبل، أو هكذا تقول هذه الرواية.
لكن هل يُمكن أن يكون تفسير الركود طويل الأمد هذا خاطئا تماماً؟ هذه هي الفكرة المثيرة للتأمل التي وضعها هيون سونج شين، المستشار الاقتصادي في بنك التسويات الدولية. بشكل أخص يعتقد شين وكثير من زملائه في بنك التسويات الدولية أننا مُضللون بالإيمان بتلك القوة "ذات الإشارات" في أسعار الفائدة المنخفضة، أو إلقاء اللوم على مخاوف الركود طويل الأمد للتسبب فيها.
هذه الحجة لم تجلب كثيرا من الاهتمام، جزئياً بسبب ذلك الجنون بشأن أسعار الفائدة الأعلى. لكن ينبغي لها أن تفعل. لأن شين إذا كان مُحقّاً في حجته "وأعتقد أنه كذلك"، فهذا له آثار في كيف يمكن أن تعمل إجراءات الاحتياطي الفيدرالي على تشكيل الأسواق في المستقبل أيضاً.
يعتقد شين أن مختصي الاقتصاد الحديثين يعانون بقعة عمياء حاسمة: يغلب عليهم أن يتجاهلوا كيف يعمل النظام المالي فعلاً، لأنهم يتعاملون مع نماذج مثالية خاصة بالمال وحوافز المستثمرين.
هذه ليست مشكلة جديدة. على العكس، جادل بنك التسويات الدولية من قبل "مرة أخرى بشكل صحيح" أن ذلك كان أحد الأسباب وراء فشل كثير من صنّاع السياسة في رؤية الأزمة المالية التي كانت تلوح في الأفق ـ قبل عام 2008 لم ير مختصو الاقتصاد علامات المخاطر التي كانت تتشكل في المنتجات الضارة في الأسواق المالية، مثل المشتقات الائتمانية، لأنهم كانوا مُدرّبين على مشاهدة إشارات الاقتصاد "الحقيقي" فقط "مثل التضخم".
بعد أن ضربت الأزمة، بدا مسؤولو البنوك المركزية لفترة وجيزة أنهم غيّروا طرقهم. لكن شين يخشى أن هذه البقعة العمياء تعود مرة أخرى: بشكل أخص، يغلب على مختصي الاقتصاد إلقاء اللوم على الاقتصاد الحقيقي في انخفاض أسعار الفائدة، بدلاً من النظر في المنتجات الضارة التي يخرجها القطاع المالي.
كتب شين: "قد تكون عوائد السندات طويلة الأجل مُبالغا فيها من حيث كونها مؤشرا مستقبليا على الظروف الاقتصادية". وتابع "بدلا من أن تكون نافذة على المستقبل الذي يكشف بصائر لا يملكها أي مُشارك فرد في السوق، فإن العوائد المنخفضة، بدلاً من ذلك، ربما تكون علامة على دوافع عادية جداً للمستثمرين الأفراد".
ويُشير، مثلا، إلى انهيار عائدات سندات اليورو ذات الأجل الطويل بين عام 2014 وعام 2016. عندما حدث هذا تم تفسيره على نطاق واسع على أنه علامة على أن المستثمرين كانوا متشائمين بشأن الانكماش والركود في منطقة اليورو في المستقبل. مع ذلك، بنك التسويات الدولية درس شركات التأمين على الحياة الألمانية التي كانت تُمثّل في الآونة الأخيرة 40 في المائة من مشتريات السندات الحكومية، واستنتج أن تلك الشركات كانت تتخاطف تلك السندات ليس بسبب توقعات الانكماش، أو زيادة الرغبة في المخاطرة. بدلاً من ذلك "قواعد المحاسبة وتنظيم القدرة على السداد" أجبرت شركات التأمين على مُطابقة الأصول مع الالتزامات.
ونظراً لمكامن الخلل في الطريقة التي تعمل بها هذه القواعد "وهي معقدة جداً ولا مجال لتوضيحها هنا" شعرت مجموعات التأمين بأنها مُجبرة على شراء مزيد من السندات للتحوط ضد مخاطرها عندما انخفضت العوائد، على الرغم من أن هذا كان عكس منطق الاستثمار العادي.
النتيجة كانت دائرة رد فعل غريب تعزز ذاتها بذاتها من النوع الذي يصفه المتداولون بأنه "التحدّب السلبي" (جورج سوروس، المستثمر الملياردير، يدعوه "قابلية الانعكاس").
هذا يبدو أسلوبا عبقريا غريب الأطوار، لكن لديه نوعين من المضامين. فهو يُشير إلى أن البنوك المركزية الغربية ربما تم تضليلها لإبقاء أسعار الفائدة منخفضة جداً لفترة طويلة، بدلاً من علاج الكآبة الاقتصادية. وربما يكون برنامج التسهيل الكمي قد عزّز قلق السوق من خلال جعل شركات التأمين وشركات أخرى تتصرف بطرق منحرفة. سيكون من الحمق أيضا أن نفترض أن المسار المستقبلي لأسعار الفائدة سيكون سلسا ولطيفا – لا علينا من نقاط المنحنى التي يراقبها الاحتياطي الفيدرالي لتحديد أسعار الفائدة. وكما يلاحظ شين، "تضخيم الآلية التي دفعت العوائد إلى أدنى يمكن بالقدر نفسه أن يعمل بالاتجاه المعاكس". زيادات أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي يمكن أن تطلق عقال حلقات تغذية راجعة جديدة، ما يدفع بأسعار الفائدة في السوق إلى معدلات أعلى بكثير مما هو متوقع، وعلى نحو يردد أصداء ما شهدناه في عام 2004، مثلا.
هذا بالتأكيد لم يحدث حتى الآن، بل على العكس، العوائد على سندات الخزانة الأمريكية لأجل عشر سنوات تراجعت بعد قرار الاحتياطي الفيدرالي رفع أسعار الفائدة الأسبوع الماضي. لكن لا يجدر بالمستثمرين أن يتجاهلوا التهديد بوجود "آلية تضخيم" في الاتجاه المعاكس، خصوصا بالنظر إلى مقدار الرفع المالي الزائد الذي وقعت تحته، بهدوء، كثير من المؤسسات في السنوات الأخيرة. بما فيها داخل الحكومة الأمريكية.

الأكثر قراءة