بين الرحمة بالمستقدَمين ومستقبل بلادنا

ما الحد الفاصل بين الرحمة والعطف على الملايين من العمالة الأجنبية الذين نستقدمهم من أجل تأدية واجبات بعينها، وبعضهم من بلاد فقيرة، وبين مسؤولياتنا تجاه مستقبل أولادنا وأحفادنا على أرض هذه الصحراء القاحلة؟ نحن نعلم أن نسبة كبيرة من المستقدَمين لسنا بحاجة إلى وجودهم في بلادنا اليوم، على الرغم من أن استقدامهم كان أصلاً بموجب تأشيرات قانونية. ولكن، لأسباب سوف نتطرق لها لاحقا، أصبح بقاؤهم بين ظهرانينا غير ضروري ووجودهم عبئا على اقتصادنا. فهل، يا تُرى، نتغاضى عن وضعهم ونترك لهم خيار المغادرة من عدمها رأفة بهم وبمن يعولون؟ سوف نجيب عن هذا السؤال من خلال مضمون هذا المقال. والداعي لعرض هذه القضية الشائكة، ما لاحظته من ردود فعل بعض المغردين في "تويتر"، سلبًا أو إيجابًا، عندما يكون الحديث عن وجوب تسريح كل من ليس لنا حاجة إلى وجوده على أرضنا. فمنهم من يصفني بأنني " قطَّاع أرزاق"، وآخر يستنكر موقفي ويظن أنني "أشحن" الإعلام ليقف ضد وجودهم. وتعليقات أخرى كثيرة متفاوتة في المواقف. هناك فئة تحبذ اتخاذ إجراءات قانونية تنهي وجود كل من لا يعمل في وظائف حرفية وتقنية تضيف إلى الاقتصاد الوطني.
فقد كنا إلى ما قبل أن يبدأ دخل البترول، في نهاية النصف الأول من القرن الماضي، نعمل ونؤدي واجباتنا البسيطة بأنفسنا دونما حاجة إلى مساعدة من خارج بلادنا. وكان لدينا شبه اكتفاء ذاتي ما عدا الملابس وبعض الكماليات. ومع طفرة الدخل انقلبت حياتنا رأسًا على عقب. ارتفع صرف الدولة على مشاريع البنية التحتية، ولم نكن حينئذٍ مؤهلين للقيام بأعمال الإنشاء الحديثة، وهو ما اضطرنا إلى فتح باب الاستقدام للعمالة الأجنبية. ومع تحسن الوضع الاقتصادي نسبيًّا انصرف المواطنون كليًّا نحو الواجبات الناعمة وتجنبوا تأدية الأعمال الشاقة والمنتِجَة وتركوها للعامل الأجنبي. ومع توالي الطفرات الاقتصادية المرتبطة بزيادة دخل البترول، بدت الحاجة إلى مزيد من الاستقدام العشوائي ليشمل جميع خدمات المجتمع دون استثناء، بما في ذلك الأعمال التي ليست بحاجة إلى مهارات تقنية أو فنية أو حتى شهادات دراسية، كالبيع والشراء في مرافق تجارة التجزئة "الدكاكين" وخدمات محطات الوقود. وبقدرة قادر، تغير وضع الأجير في مرافق التجزئة إلى صاحب محل يبيع ويشتري لحسابه الخاص مقابل دفع مبلغ بسيط للكفيل. وارتفع الطلب على مزيد من الدكاكين، ولبت البلديات الطلب دونما دراسة للموضوع وعواقبه. سمحت بتغيير معالم الشوارع إلى أسواق تجارية عشوائية يفوق عدد محالها منازل السكن. وهو ما لم نشاهده في أي بلد في العالم. وما عليك إلا أن تلقي نظرة سريعة على أي حي سكني لتصدم بكثرة عدد الدكاكين. حتى يخيل إليك أننا نسكن وسط مراكز تجارية. بلغ عدد العمالة التي تعمل في محال التجزئة بضعة ملايين من الوافدين، ووضع معظمهم مخالف للنظام على الرغم من أن وجودهم كان بموجب إقامة سارية المفعول، لأنهم لا يعملون كما هو مطلوب في طلب التأشيرات. وعلى "طاري" التأشيرات، فقد حصل ما لم يكن مقبولاً. انفتح باب آخر، وهو منح آلاف التأشيرات، حسبما يشاع، بطرق لا يمكن أن تكون نظامية، ونحن لا نثبت ذلك. واتجه كثيرون إلى طلب تأشيرات لأعمال ومشاريع أقرب ما تكون إلى كونها وهمية. فبمجرد الحصول على العدد المطلوب من التأشيرات يتفق صاحبها مع العمالة القادمة على دفع مبلغ شهري معيَّن ويتركهم يبحثون عن أعمال يتكسبون من ورائها لحسابهم الخاص. وما عليك إلا إطلالة في الصباح الباكر على أرصفة الشوارع الرئيسة في معظم المدن الكبرى لتشاهد الألوف منهم يبحثون عمن يشغلهم بأجر ولو متواضعا، من أجل أن يوفروا أقساط كفلائهم وقوتهم وادخار ما يزيد على ذلك. هذا بطبيعة الحال وضع غير صحي ولا يجب أن يستمر على هذه الحال. ولا نظن أن هناك متابعة دورية من قِبَل المسؤولين بعد زمن معين للتأكد من أن التأشيرات قد استخدِمت كما هو مبين في الطلب الأصلي. وليس سرًّا أن عدد العمالة اليوم لا يزال ينمو بنسبة كبيرة، ربما بأكثر من مليون وافد سنويًّا، على الرغم مما تعانيه الميزانية العامة حاليًّا من عجز كبير وضمور في الدخل. ونحن نتمنى لو كان باستطاعتنا مساعدة الفقراء والمعدمين من جميع الملل والأجناس، ولكن مسؤولياتنا تجاه أجيالنا الذين هم مقبلون على حياة في منتهى الصعوبة في هذه البلاد بعد نفاد البترول، تحتم علينا عمل كل ما يمكن لحماية مستقبلهم وتجنيبهم سوء نوائب الدهر.
فالعمالة الزائدة والسائبة التي تعمل في مجالات من الممكن إحلال المواطن مكانها، من الأفضل ألا تجدد إقاماتها، فهي تعيش عالة على اقتصادنا، أي أن وجودها لا يضيف شيئًا إلى الاقتصاد الوطني. بل العكس تمامًا، فكونهم على أرضنا وفي بلادنا يكونون عبئًا ثقيلاً على البنية التحتية ويستغلون كثيرا مما هو ممنوح للمواطن من جملة التسهيلات والإعانات والتخفيضات على حساب خزانة الدولة. والكل على علم بأن كامل دخلنا في الوقت الحاضر من البترول، والبترول مآله إلى النضوب، وذلك يتطلب منا عدم الإسراف في الإنتاج وتقنين الصرف المالي وزيادة الجهد في توطين نوع من الصناعة والخدمات من أجل أن تدر علينا دخلا مستقلاً يكون إن شاء الله نواة لدخل مستديم لما بعد عصر البترول.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي