النقص والتمام

أقل القليل يكفيك، وكل شيء لا يكفيك، فالنفس بحر من البحور، تبتلع كل شيء ولا تشبع، والعين لا يملؤها إلا تراب قبر مظلم! تغير عبر الزمان مفهوم الكفاية، ومفهوم العوز، ومفهوم الغنى، يكاد يكون كل الضروريات اليوم كماليات يمكن ألا تخطر على بال كثيرين ولا يلتفت إليها أحد، أو يشعر بالحاجة إليها. الصينيون بوصفهم من الشعوب التي ينال الفقر دائما الحصة الأكبر من عددهم، يتربى الطفل منذ نعومة أظفاره على قاعدة أن الغنى في الرغبات الأقل والفقر في الرغبات الأكثر. فكلما كانت رغباتك قليلة، كنت أكثر غنى، وأكثر راحة، وأكثر رضا عن قدرك ودنياك ونصيبك منها. أن تمتلك كثيرا لا يعني أنك غني، أو في راحة، الأهم دائما هو أن تشعر بالرضا بما تملك بعيدا عن حجمه، وبعيدا عما يمتلكه الناس حولك، الأهم هو الرضا، هذه الصفة العزيزة التي تعطيك من عزتها كثيرا إن سكنت قلبك، وتولت هي فعل الإرادة منك.
يملك كثيرا وهو فقير بطعمه، فقير بمهانة نفسه عند الطلب، وضيع في لحظة العفة عن القبض، ذليل عند الرجاء في نيل مطمع، أو طلب حاجة، وهذا هو النقص وإن ظهر في صورة كمال، أو بهيئة تمام، العين جائعة، والنفس في نقص، وإن سكنت القصور الفاخرة العظيمة.
وربما من لا يملك شيئا، هو في تمام الكمال برضا نفسه، وعفته عن الطلب، ورفعته عن الرجاء في أحد، أو الطمع فيما لا يقدر عليه. أو ما لم يقدره الله له، كل رغبة يمكن الاستغناء عنها، وكل أمنية يتساوى الوجود والعدم في يقين الرضا الذي يعيش به بين الناس المستعرة نفوسهم برغبات لظى، وأماني حرى، وشهوات تتوقد، وهي جميعا تشعر النفس بالنقص وعدم الكمال. ثمة مال أكثر، وبيت أكبر، وزوج أجمل، وعطايا نالها آخرون ولم ينل، فمهما نال محروم، ومهما أكل يظل جائعا، ومهما شرب يظل عطشان. الجوع باق فيه، والطمع باق فيه، والشعور بالعوز، والفقر باق فيه، ولو ملك كل شيء وبلغت ثروته مبلغ الأرقام التسعة والأصفار العشرة.
أشعر بصدق الصينيين وحكمتهم، حين أجد سعار المطالب التي لا تنتهي، ولا تنقضي، حين أجد هذا الطلب الذي يقضيه الموت ولا ينقضي، جنون النار الملتهبة بطلب الحطب، ورغبات وهجها الذي يتلظى، لونا بعد لون، وظلا بعد ظل، حتى باتت النفوس ناقصة في غير اكتمال، نقص الشعور بالفقر إلى شيء، والحاجة إلى شيء، والضعف أمام الرغبة في شيء، وتملك شيء، وهذا ضعف وعجز عن الكمال والتمام.
التام هو ألا تشعر النفس أنها محتاجة إلى شيء آخر غير الله، أن تكون غنية بشعور الغنى الرفيع في النظرات، وفي الملامح، وفي الرضا عن الله فيما يهب، وفيما يمنع، وفيما يعطي، وفيما يمنع، وفيما يفيض علينا منه، وفيما يقبضه عنا. الرضا الأخير عن النفس ذاك الرضا الذي يشعرك بتمام نفسك في غير نقص، وستجد من حولك أغنياء كثيرين في فقر ونقص لا كمال له يؤمل، ولا تمام يرتجى فيه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي