Author

كيف طارت سمعة هذه الدولة في الآفاق؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد
كثيرة هي المعايير التي يتم فيها تقييم دول العالم وشعوبها. أكثر المعايير شهرة ورصانة هي التي تأخذ الجوانب الاقتصادية والعلمية والصناعية والتكنولوجية والتعليمية في عين الاعتبار. إلا أننا بين الفينة والأخرى نقرأ في الصحافة العالمية معايير أخرى لتسلسل الدول في سلالم، منها ما يخص السعادة مثلا، ومنها ما يتعلق بشؤون الإعلام والحرية ومكانة المرأة وغيره. وقد دخل أخيرا معيار آخر تنفذه جهات بحثية ومراكز موثوقة يخص سمعة الدول في العالم. وهذا يعد من أهم المؤشرات على مكانة الدول. الدولة ذات السمعة الطيبة عالميا يزداد رصيدها في جوانب عديدة، ويأتي الاقتصاد والسياحة وجذب رؤوس الأموال والشركات ذات التقنيات الفائقة والعمالة الماهرة في مقدمتها. والسمعة الطيبة تجعل من البلد محط أنظار الدنيا وقبلة المهاجرين أو الذين يبحثون عن الاستقرار بعيدا عن مشكلات الدنيا. في العام المنصرم الذي غادرنا قبل أيام، ظهر أن دولة السويد تقبع في قمة السلم في معيار أفضل الدول سمعة في العالم. وانتشر الخبر مثل النار في الهشيم وتناقلته وسائل الاتصال والإعلام والتواصل وبشتى اللغات وعلى مستوى العالم برمته. قد يتصور البعض أن السويد وحكومتها ستقيم احتفالات احتفاء بهذه المكانة البارزة والسمعة الطيبة في العالم، أو أن الإعلام السويدي سيركز في تغطيته للأحداث على هذا الخبر المهم. لم يحصل أي شيء من هذا القبيل، وأظن أن بعض السويديين سمعوا بالخبر ولكن من خلال قنوات أجنبية. وأكثر من هذا، لم يعير أي شخص أو مؤسسة أو جمعية الأمر أية أهمية. الاهتمام في هذه الأيام منصب على الطقس وتقلباته، حيث الفارق بين درجة الحرارة في الليل والنهار قد يصل أحيانا وفي بعض المناطق إلى 15 درجة، وما يرافق ذلك من أمراض مثل النزلات الوافدة والحمى المعدية وما يجلبه مناخ متقلب مثل هذا من أمراض. الكل تقريبا كان منهمكا في احتفالات عيد الميلاد ورأس السنة التي شابتها مسحة من الوجوم والحزن لانقطاع هطول الثلج في مثل هذا الوقت من السنة بسبب التغيرات المناخية. كيف يكون إذن هذا البلد أفضل سمعة في العالم أو شعبه من أكثر الشعوب سعادة؟ هناك كثير في هذا المجتمع مما يراه الآخرون يعاكس واقع الشهرة والسعادة. فمثلا، الأغلبية الساحقة من السويديين يعيشون في شقق صغيرة، وهنا أعني أن مساحتها أقل من 100 متر مربع. الذي يملك شقة بمساحة 100 متر مربع شخص محظوظ. والعلاقات الاجتماعية شبه معدومة ضمن المجمّع السكني الذي أنت فيه. ربما تمضي سنين في شقتك وأنت لا تعرف من هم جيرانك إلى درجة أنك إن رأيته قد تتصور أنه شخص غريب. والأمر الذي قد لا يعرفه أغلبية القراء هو أن العائلة في المفهوم السويدي قد تتألف من شخص واحد. تقريبا نصف الأسر السويدية تتألف من عزاب من دون أطفال. الولوج في علاقات اجتماعية ليس أمرا يسيرا في هذا البلد الذي له أفضل سمعة في العالم. السويديون يقدسون الخصوصية الفردية، ومن النادر أن يبادر أحدهم إلى الحديث مع شخص آخر في مكان عام. مع هذا كله، السمعة الحسنة جلبت كثيرا من الحسنات لهذا البلد. السويد اليوم تعد أكثر البلدان في العالم جذبا لأصحاب الملكات والمواهب والمهارات. يعمل فيها نحو نصف مليون أجنبي أغلبهم ذوو اختصاصات نادرة. وتعد السويد أكثر بلد أوروبي ترحيبا بالأجانب، حيث تقوم بضيافة أكبر عدد من اللاجئين نسبة إلى عدد السكان. الأجنبي الذي يتقن اللغة الإنجليزية لا يجد صعوبة في العمل ولا سيما في الحلقات العلمية والصناعية والتقنية المتطورة. السويديون تقريبا في مجملهم يملكون ناصية اللغة الإنجليزية. وتقاطر العمالة الماهرة إلى السويد أمر فيه بعض الغرابة لأن النظام الضريبي في السويد هو واحد من الأقسى في العالم، حيث قد تصل ضريبة الدخل إلى 40 في المائة أحيانا وضريبة القيمة المضافة إلى 25 في المائة. سمعة السويد، إضافة إلى كونها دولة فائقة التطور ويقطنها مجتمع مدني وحضاري، تكمن في السعي الحثيث إلى المساواة في أغلب مناحي الحياة. المرأة تعمل في السويد وتشكل نحو 45 في المائة من القوى العاملة ولا تستند في عيشها على الرجل. والدولة توفر ضمانا اجتماعيا يشكل الأطفال عماده. ويساعد هذا النظام المرأة التي لديها أطفال على الاستمرار في العمل. ربما تكون السويد الدولة الوحيدة في العالم، مقارنة بحجم السكان لها مكانة هكذا وسمعة تحسدها عليها دول كبيرة وبحجم سكان يزيد عليها أضعافا. رغم كل هذا، الناس في السويد، ولا سيما أصحاب الشأن فيها، ليس همهم فقط المحافظة على مكانتهم بل العمل الحثيث على تعزيزها وضمان مستقبل بلدهم وأجيالهم اللاحقة. يعملون ليل نهار مثل خلية النحل وبهدوء وحيادية وشفافية وسكينة ودون ضوضاء وتشويش وتدخل في شؤون الآخرين.
إنشرها