التجنيد .. وتعزيز التحول الاقتصادي «1 من 3»

حث مفتي الديار أخيرا على القيام بتجنيد الشباب بالنظر للظروف المحيطة بنا والأخذ بالأسباب لحماية الوطن، ومما لا شك فيه أن أي دولة في منطقة كمنطقتنا يجب أن تستعد للأسوأ، ومن ناحية أخرى، يمكن اعتبار مبادرة من هذا النوع فرصة ثمينة تحمل فوائد موازية. إن التحول الاقتصادي المستهدف في "رؤية 2030" يتطلب في جوهره طفرة في الإنتاجية على مستوى أجهزة الدولة والقطاع الخاص والأفراد، وتحول المعادلة الريعية فيما بين الأطرف الثلاثة إلى معادلة شراكة وطنية تكون الطفرة الإنتاجية محصلتها الأهم، ليبنى القطاع الخاص على هذه الإنتاجية فيصبح المحرك الأهم للنمو الاقتصادي ولاستحداث الوظائف الجاذبة للأعداد المتزايدة من الشباب السعودي الداخلة لسوق العمل سنويا، والتي لا تقل عن 100 ألف شاب. وحسب إحصائيات جريدة "الاقتصادية" فإن الاقتصاد الوطني لم يوظف سوى نصف هذا العدد في الفترة الماضية لترتفع نسبة البطالة بعض الشيء بين السعوديين بدلا من انخفاضها. السؤال الكبير المطروح هو "كيف يستطيع القطاع الخاص استحداث هذا العدد من الوظائف للسعوديين عندما تكون تكلفة الموظف السعودي أكبر من تكلفة الأجنبي بمرتين إلى أربع مرات؟". عدا عن عدم جاذبية الظروف والمتطلبات المحيطة بالأجنبي بالقطاع الخاص لأغلبية السعوديين الداخلين إلى سوق العمل. الجواب يأتي في ديناميكية توازن العرض والطلب في سوق العمل.
من ناحية العرض يجب أن تكون مخرجات التعليم والتدريب متوائمة مع متطلبات الإنتاجية في القطاع الخاص من حيث المهارات الفنية والعملية، بما فيها أخلاقيات العمل. وهنا يأتي دور التجنيد والفرصة التي يقدمها. إن التجنيد في صورته الأشمل نوع من الخدمة الوطنية، وقد شرع عديد من البلدان بما فيها ماليزيا والولايات المتحدة وجنوب إفريقيا ودول أخرى في استحداث برامج مشابهة أو موازية للتجنيد للقيام بالخدمة الوطنية، واكتساب المهارات المطلوبة في سوق العمل، والمطلوبة لتحسين الإنتاجية ولتنمية روح الانتماء الوطني. وقام كاتب هذه السطور بتقديم مبادرة من هذا النوع لعدد من الوزارات، وسوف أقوم باستعراض الخطوط العريضة لهذه المبادرة، لعلها تلفت الانتباه إليها من حيث مناقشتها وتطويرها تمهيدا لتطبيقها أو لجعلها أكثر جاذبية للمسؤولين. أما بالنسبة لجانب الطلب فسوف أتطرق إليه في مقال لاحق إذ يقتضي ذلك التطرق إلى مبادرات في عدد من القطاعات.
المهم في هذه المبادرة ـــ على جانب العرض ـــ مشاركة وتضافر القطاع الخاص مع القطاع العام لاستحداث مراكز وبرامج لتدريب أعداد كبيرة جدا من السعوديين حديثي التخرج من الثانوية (أو حتى الجامعة) تناسب مخرجاتها احتياجات القطاع الخاص للمرحلة المقبلة ــ ليس فقط من الناحية الفنية وإنما خصوصا ـــ من الناحية الأخلاقية (أخلاقيات العمل).
هناك جوانب مشابهة للتجنيد في هذا النوع من البرامج من حيث التركيز على جوانب الانضباط والجدية، والإنتاجية، والعمل الجماعي وتتضمن كذلك التركيز على التدريب العملي ـــ إضافة إلى النظري ـــ في مواقع وظروف فيها تحد وتتطلب جهدا كبيرا، حتى تعود بالفائدة على الفرد والوطن والمجتمع من حيث التأهيل للعمل والمواطنة الصالحة. بطبيعة الحال يمكن إدماج برامج الخدمة الوطنية هذه مع برامج التجنيد. إني أرى أن الوطن في حاجة إلى التركيز على الجانبين العسكري والتنموي بالتوازي للدفاع عن مكتسباته بشكل مستدام وفعال. إذ لا يمكن تمويل وحشد الموارد العسكرية خلال فترات المواجهات الصعبة إن لم يكن يدعم توليد تلك الموارد اقتصاد قوي قادر على رفد ودعم القطاع العسكري بالمال لقاء الإنتاج الوطني بسواعد وطنية. هذا عدا عن حماية الجبهة الداخلية من آثار بطالة الشباب وقلة الالتزام والانتماء للوطن. قد يرى البعض أن المهمة صعبة جدا أو حتى قريبة من الاستحالة، ولكن هناك شواهد في أرض الواقع رأيتها بأم عيني وعايشتها بجوارحي تبين كيف يمكن لشراكات بين القطاعين الخاص والعام ـــ من خلال شركات مثل أرامكو وسابك والشركات المساهمة الكبرى الأخرى مثل البنوك والبتروكيماويات ـــ أن تدرب الشباب السعودي وتنميه وتحفزه ليصبح منتجا بشكل يشابه، إن لم يتعدى في كثير من الأحايين، العنصر الأجنبي على المديين المتوسط والطويل. النقطة المهمة تكمن في أن كثيرا من هذه الشركات تنجح في توظيف السعوديين لأنها تعتمد على توليفة من الاستثمار المكثف في رأس المال الثابت مع توظيف مهارات بشرية عالية نسبيا. حيث يتحمل أنموذج الأعمال هذا تكلفة تدريب وتحفيز السعودي وتحقيق بيئة جاذبة له إضافة إلى تحقيق أرباح معقولة للمساهمين والمستثمرين. يكمن السر في كيفية توظيف أنموذج العمل هذا ــ المعتمد على استثمار تقني ومهارات (رواتب ومنافع) عالية نسبيا ـــ لتوفير عدد أكبر بكثير من الوظائف من تلك التي توفرها الشركات والمؤسسات الكبرى في الوقت الحاضر. هناك عدد محدود من القطاعات التي تستطيع توظيف هذا الأنموذج من العمل مع توفير العدد المطلوب من الوظائف، أي باعتماد الاستثمار المكثف بالتقنية والمهارات العالية المذكورة آنفا. من هذه القطاعات قطاع التشييد والبناء وقطاع السياحة وقطاع تقنية المعلومات والبرمجيات باللغة العربية. سوف أطرح المبادرة فيما يتعلق بقطاع البناء والتشييد بتفصيل أكثر في مقال لاحق.

المزيد من الرأي