النجاحات الفردية «القيم والمفاهيم مقابل التخطيط»

انتشرت في الآونة الأخيرة قضية التخطيط الفردي وأن الفرد يجب أن يكون له خطة رئيسة وخطط تنفيذية مُزمّنة وأعرف الكثير ممن حاول ذلك وانتهى إلى حالة من الإحباط حيث لم يلتزم بالخطة التي وضعها وفقد عفويته في الحياة.
لا أدعو لعدم التخطيط على المستوى الفردي ولكن أود أن نفرق بين تخطيط المنشآت أيا كان نوعها والتخطيط الفردي، حيث إن المنشآت أنشئت لأجل أغراض واضحة وتمت هيكلتها لتحقيق المهام في إطار هذه الأغراض ومن ثم تم توفير الكوادر البشرية اللازمة لتحقيق خططها التي يتم إعدادها بالتفصيل في أطر زمنية من قبل فريق تخطيط متخصص يقوم في مراحل لاحقة بالإشراف على تنفيذها وتقويمها وصيانتها وتطويرها أولا بأول وفق أدوات تحليل ومؤشرات أداء ومنهجيات تخطيط وتطوير وكل ذلك غير متاح للأفراد، الأمر الذي يصعب معه نجاح التخطيط الفردي المفُصّل المزمن إلا في حالات نادرة لأفراد يتمتعون بقدرات ومعارف ومهارات في التخطيط والتنظيم والمتابعة.
والسؤال: ما الذي يقف وراء نجاحات الأفراد إذا لم يكن التخطيط؟ في دراسة أجراها المختص الإداري (ماك ماكيلاند) لوزارة الخارجية الأمريكية للتعرف على أسباب نجاح وتميز بعض من تم تعيينهم على أساس المؤهلات ومعقولية أداء البعض وفشل البعض الآخر توصل إلى ما يعرف اليوم بـ "الجدارات" كسبب رئيس لهذا التفاوت وبالتالي يجب فحص الجدارات وليس المؤهلات فقط قبل التعيين الأمر الذي أدى لتطوير وسائل وآليات اختيارات التوظيف كما نراه حاليا حيث الاختبارات والمقابلات الشخصية إضافة للمؤهلات للتأكد من مدى ملاءمة جدارات المرشح للوظيفة.
ما الجدارات؟ ولماذا نقول «فلان جدير» بهذه الوظيفية أو بالنجاح الذي حققه؟ يعرف "ربيعي" الجدارة الوظيفية بأنها مجموعة من المعارف والمهارات والقيم والاتجاهات التي يمتلكها الموظف، والتي تتحد معا لتشكيل سلوك معين مطلوب لأداء مجموعة من المهام الوظيفية بكفاءة وفاعلية، ويعد تجديد المعارف وتنمية المهارات والتمسك بالقيم البناءة والاتجاهات الملائمة للتنظيم، من أساسيات تمتع الموظف بالجدارة الوظيفية بصفة مستمرة.
ويقول المختصون إن أهم عنصر في الجدارة هو السمات الشخصية الموروثة ثم المكتسبة باعتبارها الأهم في توجه الفرد لتبني القيم والمفاهيم التي تشكل الاتجاهات وهي المسؤولة إضافة للمعرفة عن تحديد المواقف والسلوكيات واتخاذ القرارات التي تؤدي للنجاح أو الفشل، فكلما كانت السمات الشخصية إيجابية كالشجاعة والكرم والحلم والكياسة وسرعة البديهة والذكاء والتحمل كان الفرد أقدر على تبني واستيعاب القيم الملائمة والمفاهيم السليمة المحفزة لِيتكون لديه منظومة قوية من السمات الشخصية مدعومة بمنظومة إيجابية من القيم والمفاهيم ومن ثم الاتجاهات للتفوق بدوافع داخلية من خلال نهل المعرفة من جميع مصادرها واكتساب المهارات بشكل مستمر والإخلاص بالعمل والإبداع في الظروف كافة وإن كانت المحفزات قليلة والعوائق كثيرة.
ولذلك من النادر أن تجد الأفراد الناجحين يتذمرون من الظروف ويشتكون منها كسبب للفشل بل دائما ما تجدهم ينظرون للظروف كتحديات دفعتهم للتفكير والعمل والصبر والمثابرة والتحمل والإصرار حتى حققوا النجاحات التي أعجبت وربما أذهلت الناس ويتمنون أن يحققوها هم الآخرون، ونادرا ما نجد من هؤلاء الناجحين من يتحدث عن التخطيط وأنه السبب الرئيس وراء نجاحاته حيث نراهم يركزون على قيمهم ومفاهيمهم واتجاهاتهم ومواقفهم التي شكلت الدوافع الداخلية التي حركتهم نحو النجاح حتى حققوه.
أحد حملة شهادة الدكتوراه من بريطانيا ولديه أعمال تجارية يقول ما دفعني لمواصلة الدراسة ومن ثم العمل في مجال التجارة سمة شخصية في رأسي منذ الطفولة وهي أن أكون يدا عليا أعطي والدي وإخوتي وأقاربي والمحتاجين وألا أمد يدي لأحد حتى والدي. كبرت معي هذه السمة فعملت أواخر دراستي في الثانوية وكذلك أثناء دراستي في الجامعة، وجمعت المال وذهبت للدراسة في الخارج على حسابي وعملت هناك بالفرص المتاحة للطلاب حتى نلت الدكتوراه وعملت في هيئة تدريس جامعة محلية، وأثناء ذلك بادرت للعمل بالتجارة وحققت ما أريد. ولم يكن التخطيط يوما وراء نجاحاتي فكل ما في الأمر أنني أريد أن أكون رأسا في عائلتي ومجتمعي وهو ما دفعني للنجاح، مؤكدا أنه تبنى كل القيم والمفاهيم السليمة التي تحث على التميز والريادة والقيادة وسعى لاكتساب جميع المعارف والمهارات والمؤهلات التي تمكنه من تحقيق ما يدور في رأسه منذ الصغر وأنه صبر وتحمل حتى ظفر، والقصص التي تؤكد أن القيم والمفاهيم التي تستند للسمات الشخصية التي جبل الله عليها الأفراد تقف كأسباب رئيسة وراء النجاحات الفردية.
ويبدو لي أن القيم والمفاهيم السليمة، إضافة لدورها في دفع الأفراد للنجاح، فإنها ترفع من مستوى "الحس السليم" وهو القدرة الأساسية على إدراك وفهم والحكم على الأشياء التي يمكن أن تتوقع من جميع الناس دون أي نقاش، ولذلك دائما ما تجد سلوكيات من يتبنى القيم الإيجابية والمفاهيم السليمة يتواصل مع الآخرين بحس سليم ما يجعله محبوبا وأكثر قدرة على النجاح.
ولكوننا مؤمنين بما أنزل الله سبحانه في محكم كتابه وما قاله رسوله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ في سنته الطاهرة فإننا نعتقد أن من يتبنى القيم الإيجابية ويتمثلها عملا كالكرم والعطاء والبر والصدق والوفاء والاحترام والعدل ويبتعد عن كل ما حرم الله، فهو أقرب لتوفيق الله ولقد سمعنا عن كثير من قصص التوفيق للمنفقين وللبارين بوالديهم ولأصحاب الأخلاق الرفيعة.
ختاما، إذا كانت القيم الإيجابية والمفاهيم السليمة وما يترتب عليها من اتجاهات ومواقف وسلوكيات تؤدي للنجاح في الحياة والقدرة على التواصل الإيجابي مع الناس وتحقق ــ رضى الله وتوفيقه ـــ فإنني أتطلع إلى أن تركز عليها وزارة التعليم لتزود بها أبناءنا خلال أعوام الدراسة الطويلة التي تتشكل خلالها شخصياتهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي