«كفاءة» .. وكفاءة ترشيد الاستهلاك

تعد الزيادة الكبيرة المطردة في استهلاك الطاقة أحد أهم التحديات التي واجهتها المملكة خلال السنوات الماضية، حيث يشكل الاستهلاك المحلي للطاقة في المملكة ما نسبته 38 في المائة من إجمالي إنتاج المملكة من المواد البترولية والغاز، ويتوقع استمرار نمو الاستهلاك بمعدل يراوح بين 4 إلى 5 في المائة سنويا خلال الأعوام القادمة ليتضاعف بحلول عام 2030. هذا بحد ذاته يشكل تحديا استراتيجيا واقتصاديا للمملكة خلال السنوات القادمة، خصوصا في ظل التركيبة الديموغرافية للمملكة والتي يشكل الشباب فيها حاليا أكثر من 70 في المائة من تعداد السكان. فقد ارتبط الارتفاع المطرد لاستهلاك الطاقة في المملكة خلال السنوات الأخيرة بعدة عوامل من أهمها الارتفاع المطرد في النمو السكاني، وارتفاع النمو الاقتصادي خلال السنوات الأخيرة. لكن ما ساهم في ارتفاع الاستهلاك بشكل مطرد هو أن هذين العاملين ترافقا مع انخفاض تكلفة الطاقة وتدني معدلات الكفاءة في الاستهلاك، ما سبب نموا كبيرا للاستهلاك من الطاقة. بالطبع، التركيز الكبير على تحقيق التنمية الحديثة في المملكة خلال السنوات الماضية، وعدم وجود الأنظمة اللازمة لتقنين الاستهلاك وتحديد متطلبات الكفاءة في الاستهلاك، ساهمتا في جعل موضوع الكفاءة أمرا ثانويا ولم يكن له أولوية على أجندة المعنيين بسياسة الطاقة في المملكة. لكن القلق من الوصول إلى هذه المعدلات المرتفعة جدا من الاستهلاك بدأت إثارته ليس في المملكة فحسب، ولكن في الأوساط العالمية، التي بدأت تقلق من التأثير في قدرة المملكة التصديرية في المستقبل والتي تشكل أحد أهم مصادر الطاقة في العالم.
وفي سبيل مواجهة هذا التحدي، بدأت المملكة منذ ما يقارب الأربع سنوات برنامجا طموحا لتعزيز كفاءة الطاقة توفرت له الرؤية الواضحة منذ البداية، ومن ثم كان هناك مسار واضح وناجح لهذا البرنامج. هذا البرنامج الذي يقوده الأمير عبد العزيز بن سلمان بن عبد العزيز نائب وزير البترول والثروة المعدنية. وقد توجت تلك الجهود بتأسيس المركز السعودي لكفاءة الطاقة (كفاءة) والذي بدأت نتائج جهوده تنعكس بشكل واضح سواء من خلال معايير الكفاءة التي بدأ العمل بها، أو من خلال التغيير الثقافي الذي بدأ يحدثه المركز في طريقة تعاطي الأفراد والمجتمع ككل مع موضوع كفاءة الطاقة نتيجة للحملات التوعوية التي يقودها المركز. إضافة إلى ذلك، فإن ما يبعث على الاعتزاز هو أن هذا البرنامج الطموح لتعزيز كفاءة استخدام الطاقة يقوم على أيدي أبناء الوطن الذين التقيت عددا منهم ووجدتهم على قدر عال من التعليم والتأهيل والمهنية في عملهم. من هذه الحملات التي يقودها المركز الموقع الإلكتروني الخاص بالحملة الوطنية لترشيد استهلاك الطاقة "لتبقى" والذي يهدف إلى نشر ثقافة الترشيد في الاستهلاك، ويكمل هذه الجهود مشاركة المركز في المعارض والمناسبات الوطنية، وكذلك على وسائل التواصل الاجتماعي.
قد يكون لتغيير أسعار الاستهلاك دور مهم في تخفيض الاستهلاك، لكن دون وجود برنامج لتعزيز الكفاءة وتوفير البدائل التي تساعد المستهلك سواء المؤسسة أو الفرد على إدارة استهلاكه من الطاقة، فلن تحقق هذه الإصلاحات الهدف المرجو منها. ومن هذا المنطلق، فقد حدد "كفاءة" أولويات ثلاثة لعمله تتمثل في زيادة كفاءة الاستهلاك في المباني، والصناعة، والنقل البري. وبناء على تلك الأولويات، وضع منظومة عمل تشارك فيها كل الجهات ذات العلاقة لتبني معايير الكفاءة ووضعها موضع التنفيذ وإزالة العوائق الإدارية والمالية التي يتطلبها ذلك. واستطاع المركز خلال فترة قصيرة تبني معايير كفاءة الطاقة لعدد من الأجهزة المنزلية وأهمها التكييف، الذي يمكن أن تؤدي زيادة كفاءة الاستهلاك فيه إلى توفير ما يزيد على 500 ميجاواط من استهلاك الطاقة سنويا. كذلك، تبنى المركز عددا من معايير كفاءة استهلاك الوقود في السيارات تشمل مواصفات الإطارات وكمية الاستهلاك لكل كيلومتر، إضافة إلى جهود ملموسة لزيادة كفاءة الاستهلاك في الصناعة وخصوصا في صناعة الأسمنت والبتروكيماويات التي يمثل استهلاكها 90 في المائة من استهلاك القطاع الصناعي من الطاقة.
هذه التجربة المتميزة تستحق الإشادة بها، وتستحق أن تكون نموذجا يمكن تكراره في مجالات أخرى كثيرة وخصوصا أننا مقبلون على مرحلة جديدة من التحول إلى نموذج نمو جديد للاقتصاد. وأقرب مجال للاستفادة من هذه التجربة هو العمل على تعزيز كفاءة استهلاك المياه في المملكة، حيث تعد المملكة إحدى أعلى الدول في معدلات الاستهلاك الفردي منها في العالم بعد كل من الولايات المتحدة وكندا، باستهلاك يعادل 256 لترا للفرد يوميا. لكن هناك معوقات كثيرة لمسيرة الترشيد تلك، وجوانب كثيرة يمكن لبرنامج مشابه لبرنامج كفاءة الطاقة أن يركز عليها وأهمها كفاءة إنتاج وتوزيع المياه في المدن والتي تشير التقارير إلى هدر كبير فيها في بلد يعاني شح المياه. من الصعب جدا على المواطن تقبل فكرة تحمل مسؤولية ترشيد المياه وحده دون وجود جهد ملموس ومشابه للجهد الذي تم في مجال تعزيز كفاءة الطاقة. لذلك، فإن هناك حاجة ماسة للبدء في برنامج وطني لكفاءة استهلاك المياه ليأخذ في اعتباره جميع الأبعاد المتعلقة بذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي