نسبة التمويل العقاري في السعودية

ليس أصعب على المرء وهو في خضم مواجهة أزمة تنموية ثقيلة الوزن كأزمة الإسكان المحلية، من أن يهدر جزءا من الوقت لإزالة لبس وتضليل عدد من الإحصاءات والمؤشرات، التي يتم إسقاطها دون علم أو دراية على واقع الأزمة الإسكانية في بلادنا، من أكثرها لفتا للانتباه ما تم تداوله أخيرا إعلاميا حول ضعف نسبة التمويل العقاري لدينا مقارنة بعديد من الدول، وأنها لا تتجاوز نسبة 1.5 في المائة من إجمالي الناتج المحلي.
بعيدا عن التضليل الكبير الذي يعتري ترويج مثل هذه النسبة المتدنية على حد تعبير من روّج لها عن جهل، فإن الأخطر من ذلك أن يتورط مروجها في بناء تفسيرات وتصورات خاطئة 100 في المائة، لا تمت إلى واقع وطريق حل الأزمة الإسكانية لدينا بأي علاقة، بل قد تأتي في ثناياها المضللة بما هو الطامة الكبرى، وبما سيؤدي دون إدراك وفهم رشيدين إلى تفاقم الأزمة الإسكانية من جانب، ومن جانب آخر إلى التسبب في صناعة أزمات أخرى أشد خطورة على الاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء.
على الرغم مما سبق إثباته حول أسباب الأزمة الإسكانية المحلية، وفقا لما أورده عديد من التقارير والإحصاءات الرسمية، بدءا من ارتفاع درجة احتكار الأراضي داخل النطاقات العمرانية للمدن بأكثر من نصف مساحاتها الإجمالية، إضافة إلى علو كعب المضاربات العقارية على الجزء المحدود من تلك الأراضي المحتكرة، التي أوصلت حجم الصفقات العقارية عليها فقط منذ مطلع 1434 هـ حتى نهاية يوم الخميس الماضي إلى أكثر من 1.2 تريليون ريال، مستحوذة على ما نسبته 93 في المائة من إجمالي قيمة صفقات السوق العقارية المحلية البالغة للفترة نفسها 1.3 تريليون ريال! وأن جانب التمويل أمام هذه التشوهات العالية داخل السوق، لا يحمل أهمية تذكر، وأن العمل الجاد على حل تلك المعضلات الكأداء وحده كفيل بنقض هرم تلك الأزمة المفتعلة من رأسها إلى أخمص قدميها. لكن الأخطر هنا؛ أن تهرول مسرعة تلك الصفحات الإعلامية التي حملت ضعف نسبة التمويل العقاري أعلاه، تحاول أن تقفز بنا عن جهل تام بخفايا تشوهات السوق العقارية المشار إليها أعلاه، ثم تزعم القول أن سبب الأزمة الإسكانية الراهنة هو ضعف التمويل العقاري (1.5 في المائة من إجمالي الناتج المحلي)، فذلك هو أصل الجهل الذي لا علاج لدائه مهما أوتيت من قوة الحجة والعلم، تحقيقا لقول الشافعي رضي الله عنه (ما خاطبت جاهلا إلا غلبني).
تسقط المقارنة هنا في هذا الشأن سقوطا مروعا، حينما تعلم أنها تمت بين دول مضى على أنظمة التمويل العقاري فيها أكثر من نصف قرن، مقابل تجربتنا المحلية التي لم تقر أنظمتها إلا مطلع نوفمبر 2014، وأن المصارف ومؤسسات التمويل كانت تتحفظ كثيرا ولا تزال في جانب التمويل العقاري، لهذا السبب التنظيمي الذي لم يكن يكفل لها الضمانات الكافية لمنح التمويل. وتسقط المقارنة أيضا حينما تتجاهل التمويل الذي ضخه صندوق التنمية العقارية طوال أكثر من أربعة عقود مضت، وصل مجموع ما دفعه منذ تأسيسه حتى نهاية 2015 إلى أكثر من 267.1 مليار ريال (11 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، ونحو 15.3 في المائة من إجمالي الناتج المحلي غير النفطي)، مساهما في بناء وتشييد نحو 16 في المائة من إجمالي الوحدات السكنية اليوم.
وتسقط هذه المقارنة أيضا؛ أنها تجاهلت لجوء المصارف ومؤسسات التمويل غير المصرفية في غياب أنظمة التمويل العقاري حتى نهاية 2014، إلى ضخ أنواع أخرى من التمويل المتعدد الأغراض، تركز جزء كبير منه على السوق العقارية، وصلت أرقامه مجتمعة بنهاية 2015 إلى نحو 957.5 مليار ريال (39.1 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، ونحو 55.0 في المائة من إجمالي الناتج المحلي غير النفطي). وتسقط المقارنة هنا أيضا؛ أن أسواق الإسكان في تلك الدول المقارن بها لا يوجد فيها حتى 1.0 في المائة من التشوهات العتيقة التي تستقر في أحشاء سوقنا المحلية، بدءا من زيادة احتكار الأراضي وانتهاء بالمضاربات المحمومة على الجزء اليسير المتاح منها، فحينما تظهر أرقام الأسواق العقارية في تلك الدول أحجاما هائلة من قيم الصفقات، فإن أغلبها يتم على منتجات عقارية متنوعة، مقابل جزء لا يكاد يذكر على الأراضي، وهو على النقيض تماما بالنسبة لحالة سوقنا المحلية، التي أظهرت البيانات الرسمية المنشورة لدى وزارة العدل، أن نصيب المنتجات العقارية من إجمالي قيمة صفقات السوق لدينا بالكاد تناهز نسبة 6.0 في المائة!
إثبات سقوط المقارنة المضللة هنا؛ ليس هو الهدف الرئيس من كل ما تقدم، بقدر ما أنه إغلاق لشر نافذة مهترئة الأساس والقوام، يراد من وراء ترويجها القول (1) إن سبب الأزمة الإسكانية هو ضعف التمويل العقاري، وهو ما ثبت سابقا بطلانه 100 في المائة حتى قبل ترويج هذه المقارنة. (2) وهو الأخطر؛ إن التوسع في التمويل العقاري على ركام التشوهات الراهنة في السوق العقارية، وقبل أن يبدأ الموعد القريب جدا للتطبيق الفعلي لنظام الرسوم على الأراضي البيضاء، الذي يستهدف القضاء على تلك التشوهات الخطيرة، الذي سيؤدي إلى تصحيح الأسعار المتضخمة في الوقت الراهن بنسب تراوح بين 50 و75 في المائة، تؤكد الحالة الراهنة للسوق أن الإقدام على هذا الأمر يحمل في ثناياه مخاطر قصوى لا يمكن تقدير نهاية آثارها الوخيمة على الاقتصاد والمجتمع بأرقام اليوم، خاصة أن تكلفتها العالية على الأفراد، التي تستهدف استقطاع نحو 65 في المائة من الأجور الشهرية للمقترضين، ولفترات تمتد إلى 20 عاما من حياة الأفراد، كل ذلك ليس إلا طريقا بالغ الوعورة، لا أحد سيكون في منأى من آثاره ومخاطره الكبيرة مستقبلا، حتى ملاك الأراضي والعقارات الذين يطمعون في عوائده الضخمة في الأجل القصير، إلا أنهم سيتجرعون لاحقا آثاره السلبية التي ستحيط بمقدرات الاقتصاد الوطني والمجتمع كافة، فلا نجاة حينئذ لأي طرف مهما كان من تلك الآثار. والله ولي التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي