هل تفعلها بريطانيا؟

يعد موضوع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والاستفتاء المزمع عقده حول هذا الموضوع إحدى أهم القضايا التي تقلق المراقبين لآثار ذلك في الجانبين السياسي والاستراتيجي وفي الاقتصاد العالمي. لذلك فإن هناك قلقا كبيرا من أن يؤدي الاستفتاء القادم إلى نتيجة تدعم الخروج بالنظر إلى نسبة التأييد الكبيرة لذلك بناء على استطلاعات الرأي، التي تظهر أن ما نسبته 50 في المائة من البريطانيين يدعمون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من ذلك فإن أناتولي كاليتسكي، وهو كاتب في كل من مجلة "التايمز" وصحيفة "فاينانشيال تايمز"، يرى أنه ليس هناك داع للقلق من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لأن العوامل الاقتصادية والسياسية على حد سواء تضمن ـــ حسب رأيه ـــ أن الناخبين البريطانيين سيصوتون في النهاية لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي.
ويسوق كاليتسكي عدة عوامل تؤيد ذلك، أولها أن كاميرون والسياسيين البريطانيين الداعمين للبقاء ضمن منظومة الاتحاد الأوروبي لم يقوموا بأي جهد لمواجهة الموقف من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لأنهم رغبوا في إظهار موقف سياسي وشعبي قوي باتجاه الخروج لكي يحسنوا موقفهم التفاوضي مع الأوروبيين. لذلك، لم يكن أمام الساسة البريطانيين أن يتبنوا موقفا في بريطانيا لم يتبنه كاميرون، ما جعل الأصوات تظهر اتجاها شعبيا عاما يدعم الخروج، حيث تمتع اللوبي المؤيد لذلك باحتكار كامل للساحة ما ساعده على حشد الكثير من الأصوات. في المقابل بقيت الأصوات المؤيدة للبقاء تنتظر تحرك الساسة لشرح موقف بهذا الشأن. وهذا حسب كاليتسكي من شأنه أن يتغير خلال الفترة القادمة عندما يبدأ كاميرون والساسة الداعمون له حشد الأصوات الداخلية الداعمة للبقاء في ظل الاتفاق الذي أبرم مع الاتحاد الأوروبي، وعندها ستبدأ عملية حساب الفوائد والتكاليف، وبناء على ذلك ستتبدل الكثير من المواقف، وستتغير بناء عليها موازين القوى بشأن الموقف من الخروج أو البقاء في الاتحاد الأوروبي.
أحد أهم العوامل التي تدفع باتجاه البقاء هي أن التحديات الاقتصادية لبريطانيا التي ستترتب على الخروج ستكون كبيرة جدا. حيث إن على بريطانيا في حالة الخروج إعادة التفاوض على الولوج إلى الأسواق الأوروبية ما قد يكبدها خسائر كبيرة جدا في قطاع الخدمات الذي تتميز فيه بريطانيا، بما في ذلك الخدمات المالية والإعلامية وأبحاث الأدوية وخدمات المحاماة والاستشارات والخدمات المحاسبية. بينما في قطاع السلع، فإن بريطانيا ملتزمة بجوانب كثيرة من التعريفات الجمركية والولوج إلى الأسواق في إطار منظمة التجارة العالمية، ما سيقلل الأثر في الدول المصدرة للسلع لبريطانيا وسيجعل كلا من ألمانيا وفرنسا في موقف أفضل. وسيفرض ذلك على بريطانيا إعادة التفاوض على اتفاقية جديدة ملحقة للاتحاد الأوروبي كالتي تفاوضت عليها وقبلها كل من سويسرا والنرويج، والتي تفرض عليهما الالتزام بكل معايير السوق الموحدة وقوانينها، دون أي قدرة على التأثير في إعدادها والتصويت عليها. حيث وافقت كل من النرويج وسويسرا على تطبيق جميع القوانين التي أقرها الاتحاد إلى قوانين محلية دون الاستفتاء على ذلك من قبل الناخبين، علاوة على مساهمة كل منهما في ميزانية الاتحاد الأوروبي.
على الجانب السياسي، سيكون هناك تأثير سلبي بالنسبة لوضع بريطانيا في منظومة العلاقات الدولية بالنظر إلى دور بريطانيا في أوروبا خصوصا بالنسبة للولايات المتحدة التي ترى فيها شريكا تثق به لدعم مواقفها في إطار الاتحاد الأوروبي، ما يعطيها موقعا متميزا سواء بالنسبة للأمريكيين أو بالنسبة للأوروبيين الذين يستطيعون عن طريق بريطانيا الوصول إلى تقارب مع الولايات المتحدة في شتى المواقف. خروج بريطانيا سيفقدها بلا شك هذه الميزة التي منحتها هذا الموقع المتميز في الساحة الدولية، وسيؤدي بالولايات المتحدة إلى أن تبحث عن شريك آخر في الاتحاد "قد يكون فرنسا" للعب هذا الدور الحساس. كذلك فإن الاتحاد الأوروبي دون بريطانيا سيعطي الفرصة لألمانيا للعب دور أكبر على الساحة الدولية وسيعظم من درجة تأثيرها وهو أمر لا تطمئن إليه الولايات المتحدة بالنظر إلى أن ذلك قد يعيد تأجيج المشاعر الوطنية في ألمانيا، وهذا سيزيد من ضعف أوروبا في وقت تحتاج الولايات المتحدة إلى قوتها لمواجهة المواقف العدائية لروسيا في أوكرانيا التي تهدد وحدة أوروبا.
خروج بريطانيا في هذا الوقت بالذات الذي تتأجج فيه المشاعر الوطنية والشعبوية ورغبات الانفصال في عدد من الدول الأوروبية سيؤدي إلى تهديد الأمن والاستقرار في أوروبا والتأثير السلبي في الاقتصاد العالمي. خروج بريطانيا يعد فرصة مواتية لداعمي انفصال اسكتلندا من بريطانيا وسيعيد إلى الذاكرة أحداث الاستفتاء على ذلك، التي جعلت العالم كله يراقب ذلك بقلق لما يمكن أن تسفر عنه من نزعات انفصالية أخرى في مختلف الدول الأوروبية بما في ذلك إسبانيا. وبالنسبة للولايات المتحدة فإن انفصال اسكتلندا سيضعف علاقتها الاستراتيجية مع بريطانيا، حيث إن هناك عددا من السفن العسكرية الأمريكية التي ترسو في الموانئ الاسكتلندية، ما سيفقد بريطانيا المزيد من التأثير في علاقتها مع الولايات المتحدة. إضافة إلى ذلك فإن خروج بريطانيا من أوروبا سيؤجج المشاعر الداعمة للعزلة الأمريكية عن قضايا العالم والتي تسعى إلى الحد من الدور القيادي للولايات المتحدة في العالم.
لقد كان مشروع التكامل السياسي والاقتصادي الأوروبي وسيلة ناجحة لتجاوز آثار الحرب العالمية الثانية ولبناء أوروبا موحدة استطاعت الصمود في وجه الأطماع التوسعية للمعسكر الشرقي بقيادة روسيا، وأبقت على دور ريادي لحلف الناتو في قيادة العالم. وإذا قررت بريطانيا الخروج، فإن ذلك القرار سيكون له نتائج وخيمة على الاقتصاد البريطاني، وعلى موقعها في خريطة السياسة الدولية.

المزيد من مقالات الرأي