Author

الوطنية .. هي الحل

|
إن مفاهيم الوطن والوطنية والمواطنة في عالمنا العربي ظلت غائمة ومشوشة تتقاذفها البازارات السياسية أحزابا وطوائف ومذاهب.. وهو ما أسهم إلى حد كبير فيما انجرفنا إليه من هولوكوست الإسلام السياسي المتوحش.. في حين أن الغرب لم يستطع الخلاص بنفسه من محاكم تفتيش القرون الوسطى وتداعياتها إلا بضبط هذه المفاهيم حقوقيا. وليس غريبا أن تستقيل كريستيان تيورا وزيرة العدل الفرنسية احتجاجا على قانون نزع الجنسية عن مزدوجي الجنسية المتورطين في الإرهاب، فقد رأت في ذلك تمييزا وعدم جدوى، ولعل ذلك ما دفع الرأي العام إلى تغيير القانون ليشمل النزع أي فرنسي "لك وعليك". كان الناقد اللبناني الراحل مارون عبود كثيرا ما يستشهد بمقولة الإمام محمد عبده: "ما دخلت السياسة شيئا إلا أفسدته" ولو كانا على قيد الحياة لرأيا كيف أن السياسة تمادت في تقحمها حتى بلغت بنا الحال إلى أن أفسدت حتى ما بين الابن وأبيه والمرء وأخيه وبين الزوج وصاحبته التي تؤويه. فقد استوحش الناس وفتش بعضهم في نيات البعض وأضرموا نار الضغائن وانحدروا إلى الدرك الأسفل من القول العنيف إلى القتل بالسكاكين والسواطير والبنادق والمتفجرات باسم الدين والملة والمذهب. لم يكن أحد قبل سعار الإسلام السياسي يسأل نفسه وهو يترنم مثلا مع فيروز "غنيت مكة أهلها الصيدا" عن مذهبها أو مذهب كاتب كلماتها أو ملحنها وبالمثل، ما كان أحد ليجد أي حساسية أن ليلى مراد كانت يهودية أو أن المفكر العراقي الكبير علي الوردي شيعي أو أن ذلك الكاتب أو تلك الممثلة.. إلخ، من طائفة كذا أو من هاتيك، وبلغ السعار لفرز أجدادنا الخالدين ممن كنا نتفاخر بهم في الكتب ومقررات التعليم والإعلام فتم إخضاعهم للازدراء مثل ابن سينا والفارابي والرازي والبيروني وابن رشد.. إلخ، حين تبين أن لهم مواقف فكرية على غير مقاس ذهنية الإسلام السياسي، ووصل بنا الحال إلى منع كتب تراثية ومصادرتها مثل ألف ليلة وليلة ومحاضر الأدباء والعقد الفريد، إلى جانب التشهير بكل اسم حديث أو معاصر تحت غلواء الفرز الطائفي أو التكفير. لم يكن الأمر مع بداية خمسينيات القرن الماضي بمنجاة كذلك عن تغول السياسة فقد تكفلت الأحزاب الشمولية القومية واليسارية بإدارة طاحونة الانقلابات العسكرية والمعتقلات والتصفيات، وتدافعت معها تهم مسمومة منها الخيانة الوطنية والعمالة والرجعية والبرجوازية وأعوان الاستعمار سالخة المواطنين جماعة أو أفرادا عن وطنيتهم وعن أوطانهم.. كما طال الكتاب والمبدعين التراثيين تصنيف متعسف، فالقوميون حاولوا إهمال أو إخفاء ميزات من لم يقرعوا على طبل العروبة، في حين عمد اليساريون إلى إلباس بعض التراثيين لباسا بلوريتاريا وكادحا، أو الوصم بالميول الارستقراطية أو البرجوازية.. "الكريهة"!! دخل الاستعمار ولم يخرج إلا وقد أوجد لنا أوطانا ما كانت معروفة قبل "سايكس بيكو" التي أمعن تاريخنا الحديث في رجمها حبرا وقولا لكنه تشبث بها فعلا وواقعا وإلا فإن "الوطن العربي!!" ما كان يوما موحدا، وإنما ممالك وأمراء وخلفاء ودول تدول من مشرقه إلى مغربه.. من غزاة إلى غزاة حتى جاء المستعمر بكل جوره وجرائمه، لكنه حين مضى ترك لنا هذه الأوطان التي تكاد تفلت من أيدينا!! ومثلما أن هذه الأوطان طحنتها الأحزاب السياسية، باسم المواطنين "الجماهير الغفيرة".. مسقطة حقوق الغالبية والأقليات من الحساب فقد طحنتها كذلك جماعات الإسلام السياسي اليوم باسم أمة الإسلام "المواطنين" أي إسقاط الوطن من الحساب.. ما يؤكد في الحالين أنه لا الأحزاب الشمولية هي الحل ولا "الخلافة" هي الحل، وإنما "الوطنية هي الحل" على حد تعبير المفكر المصري أنور عبد الملك. إن التاريخ الحديث للغرب لم يبلغ وضعه المتقدم إلا حين سعت شعوبه وحكوماته إلى التنافس من أجل ترسيخ مفهوم المواطنة، على معايير عقلانية ومادية "حقوق الإنسان" قابلة للقياس من واقع برامج ملزمة للإنجاز تحكمها أطر نظامية تحدد المسؤولية وتباشر المساءلة في أمرها فالكل مواطن محلل بوطنيته.. ومع أن الوطنية في أوطاننا تتردد بكثافة على كل لسان.. فإنه ينطبق عليها قول الشاعر: "وكل يدعي وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا" إذ هي في مزاد عاطفي، يضارب عليها نظريا بمغالاة، لكنها سرعان ما تصاب بالعطب وتخر دامية على مذبح الاختلاف في الرأي والمعتقد.. هذا يلبسها لباسا دينينا صرفا.. وذاك يلونها بميول أيديولوجية، وكل طرف ينفي الآخر عن ملكوتها. وقد أسهمت تلك الانحيازات في تكديس جمر القهر تحت رماد الإهمال لأحقية المواطنة حتى انجرفت الأمة في ممالاة الصحوة وفرخت الهويات القاتلة التي أججت ما تحت الرماد فانحدرنا إلى هولوكوست التوحش الراهن. فقد أطيح بالمواطن تحت غلواء أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة وأطيح بالوطن تحت غلواء "الخلافة".. ولو كانت "المواطنة" هي بيضة القبان في ميزان الوطن لما هوت الكفة بنا مرة هنا ومرة هناك.. فلا نزال غير قادرين على تجاوز مفهوم الرعايا إلى المواطنة.. فخطابنا وسلوكنا وردات فعلنا تجاه من يختلف معنا من أهلنا لا يتحرج قط من إشعار مواطنه بغلظة بأنه "آخر"! لقد ترك فينا المفكر الراحل خالد محمد خالد منذ أكثر من 60 عاما صرخته في كتابه "مواطنون لا رعايا".. إلا أن مفهوم الوطنية ظل مأزوما بانحباس ثقافي عام.. وظللنا نثابر على الاعتصام بقول أبي فراس الحمداني: "ونحن أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر" وبالمفارقة السوداء.. فقد استحوذ القبر على المشهد.. فاغرا فاه!!
إنشرها