الخصخصة .. والشفافية المبكرة

خرجت أخيرا بعض الأخبار عن خصخصة مجموعة من نشاطات وزارة الزراعة وإنشاء أذرع استثمارية لإدارة مزارع الأسماك والأحياء المائية وذلك لمواجهة عدة تحديات إدارية عصية تتعلق بالأمن الغذائي. ومازالت الهيئات الحكومية الجديدة تولد كل يوم مما ينبئ عن مرحلة جديدة من استقلالية القوى التشريعية والإشرافية عن ممارسات تقديم الخدمات، وهذه من أهم سمات الخصخصة والتحولات التنموية. تؤَسس كذلك الشركات الحكومية باستمرار وآخرها ما ذكرته "الاقتصادية" على صفحاتها يوم الأربعاء الفائت حول دراسة إنشاء شركة حكومية عقارية لاستثمار أراضي الدولة. لا تخفى على أحد توجهات الخصخصة الجدية التي تأخذ أكثر من شكل ونموذج وجميعها يسعى في النهاية إلى حل جزء من مشكلاتنا الاقتصادية وإعادة تهيئة الهياكل والقنوات الاقتصادية المختلفة لاستيعاب المتغيرات ومواجهة التحديات.
يشكك الكثيرون في جدوى الخصخصة، ولهم الحق في ذلك، فنماذج التحول الاقتصادي تختلف حسب آليات تطبيقها. هناك الكثير من التجارب الناجحة والفاشلة على مستوى الدول، سواء ما حصل في الإرث السوفيتي شرق أوروبا أو ما تقوم به الصين من حين إلى آخر وغيرها الكثير من التجارب المنوعة في الدول المتقدمة والنامية. الخصخصة ليست أمرا مبتدعا وجديدا ــــ الأبحاث العلمية التي تنظر لها وتنقدها موجودة منذ الثمانينيات الميلادية ـــ ولكنها أيضا ليست عصا سحرية تحول النادر لمتوافر ولا المكلف إلى اقتصادي ولا الكسول إلى منتج!
مفتاح نجاح نماذج الخصخصة وخصوصا الموجة الأخيرة التي تأتي في وقت حساس جدا يكمن في قدرتها على التفاعل بشكل إيجابي مع الجمهور. أي أن تقوم البرامج والمبادرات الناتجة عن استخدام استراتيجيات الخصخصة بالتفاعل مع المواطنين متى ما تسنى ذلك. وهذا يختص تحديدا بالبرامج والمبادرات التي تقدم خدماتها للمواطنين بشكل مباشر. يشمل التفاعل تقديم الخدمات واستبيان الآراء المنتظم إضافة إلى تطبيق متطلبات الشفافية الكاملة. الشفافية ليست كلمة مطاطة كما يظنها البعض فتطبيقات الحوكمة وأصول تمرير المعلومة والتأثير وصلت اليوم إلى مرحلة متقدمة ومنضبطة يمكن تقديمها بشكل مناسب متى ما تم التخطيط لذلك.
الخصخصة ليست غاية في حد ذاتها، وإنما وسيلة لتحسين كفاءة الخدمات وتمكين الرقابة والمحاسبة العامة وتسخير التنافسية لتحسين حياة الناس. لذلك، لابد أن تستهدف هذه الأمور كمؤشرات للأداء يتم السعي خلفها في أي نموذج تحولي يستخدم الخصخصة أو بعض نماذجها. نحن لسنا بحاجة إلى تصاريح عن توجهات جهة ما في تخصيص مشاريعها أو الاحتفال بتخصيص قطاع كامل، المطلوب أن تعلن الأهداف المحددة المرجوة من عملية التحول، وأن يتم استقطاب التفاعل حول هذه الأهداف، وبالتالي تعمل كأداة للضبط والمتابعة الذاتية لهذه المشاريع.
لا يوجد ما يمنع العديد من الجهات الحكومية التي تم تخصيصها ـــ أو تم الإعلان عن استراتيجية تخصيصها ـــ من إعلان نتائج أعمالها بشكل دوري ومنضبط. أنا أتحدث تحديدا عن خروج التقارير المالية النظامية في مواعيدها المحددة ــــ تماما كما تمارسها الشركات المساهمة ــــ خصوصا الجهات التي تمارس أنشطة تتعامل مع المواطنين بشكل مباشر، مثل شركات التطوير العمراني التي تملكها الأمانات والناقل الجوي الوطني وهيئة الطيران المدني والمطارات الدولية وربما بعض المستشفيات الكبرى المرشحة للخصخصة. اللحظة التي تعلن فيها جهة ما نواياها بالخصخصة تفصح فيها عن التزامها تجاه العامة بمنح فرصة المشاركة في الملكية والإدارة، وهذا في حد ذاته يتطلب تقديما وتبيانا لا يحدث إلا بالأساليب المعتمدة وليس بالمعلومات المتقطعة والمترددة.
لا يقتصر الحديث هنا عن التقارير المالية فقط، فالكثير من معايير الأداء التي تتعلق بصنع الوظائف ورفع مستوى الإنتاجية وزيادة الكفاءة والتفاعل المجتمعي هدف لعمليات التحول ولا بد أن تعكس الشفافية المتوقعة هذا النوع من المعلومات. من الضروري أن تقوم وزارة الاقتصاد والتخطيط بالعمل على تقييس هذه الأهداف وتضمينها ضمن المتطلبات النظامية لمشاريع التحول، خلال فترة التحول وبعده. تعتبر معايير التقارير المالية متقدمة وموحدة إلى حد ما ولا يوجد ما يوازيها اجتماعيا أو اقتصاديا، ولكن هذا لا يعني استحالة صنع مجموعة معايير ملائمة محليا يمكن التقرير عنها بشكل دوري لتغطي بقية الجوانب غير المالية.
ختاما، تعول الخصخصة على وعي المساهم أو المواطن المشارك في تفعيل دور الحوكمة والاستفادة من آلياتها. وهو رهان يحتمل الكثير لأن سرعة عمليات التحول ومشاريع الخصخصة ربما تسبق في بعض الأحيان تطور الوعي لدى الأفراد. قد يكون من المجدي أن تنشأ جهة مستقلة تجمع وتحلل وتفسر ـــ ولا تنقل فقط - البيانات الصادرة عن مختلف الجهات لتفعِّل الدور الرقابي العام، الدور المفقود الذي يعتمد على وعي الأفراد أولا، وإلا فإن معظم تطبيقات الخصخصة وإن نجح تنفيذها ستعمل في بيئة غير متزنة لا يمكن أن تحقق فيها أهدافها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي