ماذا يحدث حينما تغيب البيانات الرسمية؟

الإجابة لن تسر الحال بكل تأكيد، وبالقدر نفسه تقريبا ستكون عليه الحال حينما يتأخر صدور ونشر تلك البيانات، أو تجدها متضاربة أو متعارضة بصورة كبيرة جدا. من المعلوم أن البيانات والمعلومات الاقتصادية والمالية والاجتماعية هي الأرض التي يستند إليها صانع القرار بالدرجة الأولى، وهي كذلك المدخلات اللازمة لدراسة وبحث أي متغيرات تخضع للتحليل والبحث من قبل المهتمين والمختصين في مختلف المجالات، ودون تلك المدخلات أو في حال تأخر الحصول عليها، لا يمكن أن تتوقع بأي حال من الأحوال أن تتشكل لديك أية حقيقة تشخص الواقع المستهدف تحليله، لتتمكن في مرحلة تالية من الحكم والتقييم ومن ثم اتخاذ القرار اللازم.
هذا جانب (غياب أو تأخر صدور ونشر البيانات اللازمة) يدعو للقلق دون شك، إلا أن الأخطر منه حال حدوثه، أن يتم الاعتماد على ما يشبه التخمين أو التقديرات غير الدقيقة عوضا عن غياب البيانات الرسمية، وهنا ترتفع درجة الإنذار أعلى من السابق! خاصة إذا كان المجال محل الدراسة والبحث مرتبطا بإحدى القضايا التنموية المرتفعة الأولوية. تتحقق الخطورة هنا؛ حال انتهى الاعتماد في الدراسة والتحليل على تقديرات رقمية غير صحيحة أو بعيدة كل البعد عن الواقع، ثم تبنى عليها قرارات وإجراءات يكون لها آثار لاحقة، وأمام هذه المعضلة الكأداء، لا أقل من الاعتراف بأن المشكلة التنموية محل الدراسة واتخاذ القرار هنا تتجه إلى مزيد من التعقيد والتأزم في أدنى الحالات.
لن تعجز مطلقا عن ضرب أمثلة حية من الواقع على ما تقدم ذكره، وإليك منها على سبيل المثال لا الحصر؛ نسبة تملك المساكن بالنسبة للسعوديين، التي تتأرجح بين 60 في المائة كأعلى نسبة، وصولا إلى أدنى نسبة عند 30 في المائة! وبين النسبتين تجد جميع الأطراف ذات العلاقة بقضية الإسكان والسوق العقارية، تراها تدور حول نفسها في حلقة مفرغة تماما، ويزيد من ضغوطها ومحاذيرها ما تقرأه منشورا بين فترة وأخرى عبر التقارير المعدة من مؤسسات الأبحاث والدراسات، ومن خلال وسائل الإعلام المختلفة، كل ينشر ويعلن النسبة التي حينما تقرأ ما يليها من تحليلات وتوصيات محددة بعينها، سيكون من السهل عليك فهم وإدراك الأهداف التي لأجلها تم الاعتماد على تلك النسبة أو غيرها، وماذا برأيك قد نستنتجه من آفاق للحلول والمعالجة وسط هذه الضبابية المعتمة جدا، في قضية تنموية هي في الوقت الراهن تحتل أولوية قصوى بالنسبة لصانع القرار وللمواطنين على حد سواء؟!
المثال الآخر؛ البيانات والمؤشرات المتعلقة بسوق العمل، وارتباطها الشديد بتحد تنموي كبير لا تقل أهميته القصوى عن تحدي الإسكان، فلا مجال لأن تجد حتى ساعة كتابة هذا المقال إجابة واضحة ومحددة عن السؤال: كم يبلغ عدد العاطلين عن العمل فعليا، لا بناء على مسوحات أو تقديرات أو تخمين؟ وكيف لنا الخروج من ضبابية التباين الكبير بين ما تعلن عنه البيانات الصادرة عن وزارة العمل من خلال صندوق الموارد البشرية من جانب، ومن جانب آخر ما تنشره مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات (بمسماها القديم) حول أعداد العاطلين عن العمل من السعوديين والسعوديات؟ خاصة إذا كان الفارق بين الرقمين يتخطى حاجز المليون عاطل وعاطلة. ولم يقف هذا التباين أو التضارب بين الإحصاءات والبيانات الرسمية عند هذا الحد؛ بل يتخطاه إلى أبعد من ذلك، إذ ستجد أنك أمام أكثر من رقم إحصائي يعبر عن أعداد العمالة غير السعودية في سوق العمل المحلية، الرقم الأول يتمثل في مجموع ما تنشره بخصوصهم كل من وزارتي الخدمة المدنية (القطاع الحكومي) والعمل (القطاع الخاص)، اللتين أوضحتا في بياناتهما الرسمية أن مجموعه تجاوز 8.54 مليون عامل وعاملة غير سعوديين بنهاية 2014، في الوقت ذاته الذي نشرت مصلحة الإحصاءات للعام نفسه أن إجمالي أعداد العمالة غير السعودية بلغ نحو 6.14 مليون عامل وعاملة غير سعوديين، أي أننا أمام فارق رقمي يتجاوز الـ 1.4 مليون عامل! فأين يا ترى هي البيانات والإحصاءات الأدق؟!
أعتقد أنه بناء على ما تقدم من تضارب وتعارض صريح في البيانات والإحصاءات، يعتبر طموحا بعيدا عن التحقق في الوقت الراهن، أن ننتظر التعرف على عديد من المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية الحيوية الأخرى، كالتعرف على خط الفقر أو خط ذوي الدخل المحدود، أو التعرف على تبويب وترتيب شرائح الدخل بين أفراد المجتمع، أو التعرف على المؤشرات الاجتماعية والمالية المتعلقة بأوضاع الأسر السعودية. بل إن الأكثر تعقيدا من كل ذلك؛ أن تذهب بعيدا في الحصول على بيانات كل ما تقدم ذكره بصورة دورية (شهريا، أو ربع سنوي)، وهو صلب ما يحتاج إليه صانع القرار والمهتمون والمختصون ومؤسسات الأبحاث والدراسات المعنية.
ختاما؛ يتحمل مسؤولية إخراج الاقتصاد الوطني من حالة التناقض والتضارب المعلوماتي أعلاه، الجهات الحكومية كافة ذات العلاقة، فلا يمكن أن ينجح صانعو القرار في عبور أي من تلك التحديات التي يواجهها وأمامه عشرات المؤشرات المتضاربة، بل كيف يمكن لهم، ومعهم واضعو ومصممو السياسات الاقتصادية، النجاح في أداء المهام والمسؤوليات الموكلة إليهم، والمؤشرات والإحصاءات الرسمية التي يعتمدون عليها خاضعة لهذا التناقض والتضارب؟!
يعد هذا التحدي الأول المتمثل في غياب أو تضارب أو تأخر تلك البيانات، هو الخط الأول الذي يجب تجاوزه لأجل إيجاد منهجية وبرنامج يساعد على إدارة مقدرات الاقتصاد الوطني والمجتمع، ولا يمكن الوصول في ظل وجوده السلبي بصورته الراهن إلى أي نتائج إيجابية مأمولة! وهو ما سبق الكتابة والحديث عنه طوال أكثر من عقد ونصف من الزمن في السابق، ورغم تلك الفترة الطويلة من عمر هذا الخلل الجوهري والكبير، إلا أنه لم يأتِ حتى تاريخه حل ناجع يؤكد تخطيه والتغلب عليه!
لا يمكن لأي جهاز حكومي أو مخطط اقتصادي، أن يكتب له النجاح أبدا في عمله، دون وجود قاعدة البيانات والمعلومات التي تبين له الموقف الحقيقي للموضوع أو القضية المكلف بتطويرها ومعالجتها، هذه ليست فكرتي! إنها القاعدة العلمية والعملية التي تقوم عليها الأمور كافة، ولهذا وضعت هذا التحدي أو المعضلة الحقيقية كأول اشتراطات الحلول تجاه التحديات والصعوبات القائمة في سوق العمل المحلية، وهو التحدي المشترك حقيقة بين أغلب التحديات التنموية التي نواجهها في مختلف القطاعات الاقتصادية الأخرى.
إنه الشرط الأول والرئيس لأجل اجتياز مختلف التحديات التنموية على اختلاف أشكالها، وهو الجسر الذي متى تم إيجاده، وتمت معالجة وضعه المختل لدينا، سيسهم في التعرف فعليا على حقيقة الفرص والتشوهات القائمة لدينا. والله ولي التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي