اقتصاد متمكن باستراتيجية متوازنة

لا سحب من الاحتياطي المالي العام السعودي منذ أربعة أشهر، الأمر الذي يعزز البدائل التي اعتمدتها المملكة لتمويل الإنفاق الحكومي الضخم الذي تتمسك به الحكومة، في إطار مخططاتها التنموية الكبرى التي بدأت منذ سنوات. والسحب من الاحتياطي المالي بشكل عام، يبقى واردا في الحالات الطارئة، وتلجأ إليه الحكومات في كل بلدان العالم. إلا أن الخيارات متعددة في المملكة، وفي مقدمتها إصدار السندات التي تشكل عماد التمويل للأغلبية العظمى من بلدان العالم، بما فيها البلدان المتقدمة. ونجحت السعودية بالفعل في إصدار سلسلة من السندات في الآونة الأخيرة، حماية للاحتياطي العام الذي يقف عند حدود 660 مليار ريال. علما بأنه وصل إلى أكثر من 900 مليار ريال في نهاية العام الماضي.
لا شك في أن عملية التصحيح التاريخية للسوق النفطية انعكست بشكل مباشر على السعودية، كما انعكست على جميع منتجي ومصدري البترول في العالم. وخسارة 60 في المائة تقريبا من أسعار النفط في غضون عام ونصف العام، تمثل معضلة اقتصادية، بصرف النظر عن قوة مواجهتها. وهي قوة تختلف من بلد إلى آخر. وعملية التصحيح هذه، ليست مفروضة على السعودية وغيرها، بل إن المملكة هي التي فرضتها على العالم، لتحقيق الهدف الأهم، وهو استدامة سوق النفط واستقرار أسعاره، وإخراج منتجين للنفط أسهموا على مدى سنوات في إغراق السوق بالمعروض النفطي، دون أن يتحملوا أي مسؤوليات سواء عملية أو حتى معنوية. إنها مسألة استراتيجية وليست عملية تصحيح عابرة.
لكن هذا الأمر محسوب ومدروس من الجانب السعودي. فحراك التنمية يسير وفق المخططات التي وضعت له، والمشاريع المرتبطة بها تمضي قدما في المدى المتوسط (من ثلاث إلى خمس سنوات)، وهي مدة كفيلة بأن تصل عملية التصحيح النفطي العالمي إلى المحطة النهائية، علما بأن المملكة وضعت في السنوات التي سبقت عملية التصحيح المذكورة، سلسلة من المخططات الاقتصادية لتقليص الاعتماد على النفط، من خلال رفع وتيرة التنويع، وعبر مجموعة من الخطوات اتخذت على أعلى المستويات في البلاد. لا يمكن أن تمر عملية التصحيح دون خسائر، وهذا أمر طبيعي، وبالتالي بقيت الفوائض المالية المتوالدة في السنوات الماضية، سندا حقيقيا للبلاد. غير أنها ستكون الملاذ الأخير، خصوصا مع وجود البدائل، وفي مقدمتها السندات.
إن نجاح السعودية في تثبيت الاحتياطي العام عند حدود 660 مليار ريال، يمثل أيضا نقطة مهمة ومضيئة في المسيرة الاقتصادية الراهنة. والسندات ليست جديدة على المملكة، فقد استخدمتها حتى عام 2007، وعادت إليها في الوقت الراهن. مع ضرورة الإشارة إلى حراك لافت على صعيد تنويع مصادر الدخل، ولا سيما جذب الاستثمارات الأجنبية. ففي المملكة - بحسب رأي المختصين المحايدين - ما يزيد على تريليون ريال من الفرص الاستثمارية، مجمعة في الواقع في 18 قطاعا مختلفا. يضاف إلى ذلك، العوائد التي يمكن أن تأتي من خلال خطط الترشيد، بما في ذلك خفض الدعم في بعض المجالات. وكل ذلك، يحمي الاحتياطي العام والاستثمارات السعودية في الخارج، ويبقيها ضمن موقعها السيادي الضامن.
ستسجل المملكة هذا العام عجزا في الموازنة العامة (وفق التقديرات)، وهي الفارق بين النفقات البالغة 860 مليار ريال والإيرادات المتوقعة بحدود 715 مليار ريال. وهو عجز ليس قليلا، إذ يصل إلى 145 مليار ريال. غير أن التعاطي الحكومي مع الحقائق الاقتصادية الموجودة على الأرض، والمتغيرات الراهنة، يخفف وقع هذا العجز لهذا العام. علما بأن السندات والبدائل الأخرى للدخل، حتى الترشيد، ستخفف الوطأة في العام المقبل، بل لنقل المرحلة المقبلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي