Author

اقتصاد القمامة

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"سلوكيات إعادة التدوير في منزلي فرضها أطفالي" أنتونيو بانديراس - ممثل إسباني ليس جديدا الحديث عن أهمية إعادة تدوير المخلفات والأشياء التي يتم التخلص منها. هذه المسألة بدأت منذ سنوات طويلة. تقدمت في مناطق، ولم تسجل أي خطوة إلى الأمام في مناطق أخرى. ولأنها ليست قديمة، فقد ارتبطت أكثر بالأجيال الصاعدة. والسبب واضح، هو أن قضية حماية البيئة، التي تدخل في إطارها صناعة إعادة التدوير، صارت في البلدان المتقدمة مادة تثقيفية، بل هناك من يقدمها كمادة تعليمية. ولذلك ليس غريبا أن تجد طفلا يرشد والديه إلى كيفية الحفاظ على البيئة، وسبل التخلص السليم من المخلفات المنزلية. ليس فقط بتنظيم فرزها، بل أيضا بالعوائد الإيجابية الهائلة، وبالمشاعر الشخصية تجاهها. لقد تحولت في السنوات الماضية بالفعل إلى ثقافة، يشكل الأبناء في المجتمعات الراشدة أفضل أدوات النشر لها. يقول مايك كويجلي عضو مجلس النواب الأمريكي "أشعر بسعادة عندما أقوم بإخراج المخلفات القابلة لإعادة التدوير ووضعها في مكانها. فأنا أحس بأني أعمل شيئا ذا معنى". وينظر المنتج السينمائي الأمريكي نيل لابات، إلى عملية إعادة التدوير بصورة متطرفة فيقول "نحن نعيش في مجتمع قائم على استبدال الأشياء. من السهل رمي هذه الأشياء بدلا من إصلاحها. بل إننا أطلقنا اسما على هذه العملية، وهو إعادة التدوير". وبصرف النظر عن هذه الرؤية المغالية للأمر، فإعادة التدوير باتت صناعة، بل وتسهم في رفد الاقتصادات التي تحتضنها بعوائد متصاعدة. وفي البلدان المتقدمة في هذا المجال، أصبحت جزءا أصيلا من القوانين والمعايير الاقتصادية، وصارت بندا ثابتا في حراك الإنتاج. بل هناك مخالفات شديدة تفرض على المخالفين، وأولئك الذين لا يزالون يعيشون وفق ثقافة ما قبل الأمس. من الواضح، أنه كلما تقدمت المجتمعات، ارتفعت وتيرة مساهمة صناعة إعادة التدوير في الحراك الاقتصادي والاجتماعي أيضا. ولذلك لا ترى هذه الصناعة (أو الثقافة) حاضرة في بلدان لا تزال تتعاطى معها بسخرية، وفي أفضل الأحوال، بعدم الاكتراث. بل هناك من ينظر إليها على أنها نوع من أنواع الترف! وهي بالطبع ليس كذلك، وما عليهم إلا مراجعة الأرقام والحقائق حول هذه الصناعة، وآفاق تطورها، وسرعة انتشارها في أغلبية البلدان الأكثر تقدما. في فرنسا (على سبيل المثال) توقفت منذ سنوات محال السوبر ماركت الكبرى عن توفير أكياس المشتريات. على المتسوق أن يأتي بأكياسه معه، أو يشتري أكياسا من تلك التي يعاد استخدامها لسنوات. البلدان العربية لا علاقة لها بهذا الأمر. فلم تخطُ مسألة حماية البيئة من خلال تنظيم التخلص من المخلفات والنفايات أي خطوة إلى الأمام. وليس مهما، ما إذا كانت هذه الصناعة تسهم في الاقتصاد، أو تمثل اقتصادا بحد ذاته. ويبدو أن الأمر يتطلب مزيدا من الوقت لوصول الحقائق إلى المجتمعات العربية. دون أن ننسى، أن القوانين الخاصة بهذا الشأن على الساحة العربية تكاد تكون معدومة. وإن وجدت، فإنها تأتي على شكل إرشادات، أي أنها بلا تبعات. ورغم أن بعض البلدان العربية تعاقد مع شركات أجنبية كبرى في مجال النفايات، غير أنها لم تقم بذلك لحماية البيئة والاستفادة من المخلفات، بل لضمان أفضل أداء في هذا القطاع. الأمر ليس كذلك (مثلا) في بلد كالسويد. فهذه الأخيرة تستورد 800 ألف طن من القمامة، رغم أن إنتاج الفرد فيها من القمامة يصل إلى 461 كيلوجراما سنويا. وتأتي "الزبالة" إلى السويد من بلدان متقدمة مثل بريطانيا والنرويج وإيطاليا وإيرلندا. ولعل من أهم عوائد "صناعة القمامة" في السويد، أنها توفر ما يقرب من 20 في المائة من طاقة التدفئة المنزلية. وهذا يعني ببساطة، أن نسبة لا بأس بها من هذه التدفئة ليست ناتجة عن الكهرباء أو الوقود أو الغاز. وهذا في حد ذاته انتصار بيئي واقتصادي. وبموجب القانون السويدي، يتحتم على ‏المنتجين التعامل مع كل التكاليف المتعلقة بجمع وإعادة تدوير والتخلص ‏من بقايا منتجاتهم. فعلى سبيل المثال، إذا كانت الشركة تبيع زجاجات المشروب مثلا، فيقع العبء ‏المالي لجمع وإعادة تدوير عبوات الزجاج أو الألمونيوم أو الكرتون على الشركة ‏المصنعة. ووفق هيئة النفايات البريطانية، فإن إعادة التدوير في بريطانيا، تؤدي إلى تفادى إنتاج نحو 18 طنا من مكافئ ثاني أكسيد الكربون. وعملية إعادة التدوير تُبقي عديدا من المنتجات والأشياء خارج المكبات، حيث يمكنها التأثير في البيئة أو التسبب في التلوث. وربما الأهم من ذلك، أن إعادة التدوير قادرة على إيجاد فرص عمل كثيرة تصل إلى ما بين عشر مرات إلى 200 مرة عدد الوظائف التي تنتج عن دفن وحرق القمامة. هذا ليس تنظيرا، بل حقائق خبرتها بعض البلدان على أرض الواقع، وتقوم بالبناء عليها بوتيرة سريعة. وما لا شك فيه، اقتصاد القمامة أو التدوير، سيحقق قفزات نوعية في المستقبل، مع زيادة متسارعة في سن القوانين الخاصة بهذا الشأن، سواء تلك المتعلقة بالأفراد، أو مؤسسات الإنتاج.
إنشرها