جنون العقارات في لندن فقط

"عندما يتعب الإنسان من لندن، يتعب من الحياة. في لندن لديك ما تقدمه الحياة كلها"
ساموئيل جونسون كاتب وأديب إنجليزي راحل

ترتفع أسعار العقارات في غير مدينة في العالم، وتصل إلى معدلات عالية جدا، لكنها لا تصل إلى مستويات جنونية، أو خرافية، أو غير واقعية إلا في لندن، المدينة التي تحدت كل المدن البارزة، باستقطابها أعدادا متعاظمة من الباحثين عن العقارات فيها. الأمر ينسحب أيضا على أولئك الذين يشترون العقارات في أنحاء أخرى من بريطانيا، لكن تبقى العاصمة مدينة عجيبة عقاريا، حتى مع معرفة المشتري مدى المبالغة في أسعارها، وسوء مناخها في أغلب أشهر العام، وغلاء تكاليف المعيشة فيها. الأسعار العقارية العالية لا بد أن تنعكس على تكاليف الحياة اليومية، وتنال من أولئك الذين يولدون ويعيشون في لندن حقا، لكنهم لا يستطيعون حتى التفكير في شراء منزل فيها!
إنها مدينة متميزة بكل المقاييس وعلى مختلف الأوزان، إلى درجة أنها أوجدت تميزا في قطاع العقارات ينحصر في أن المستثمرين فيه لا يخشون أي فقاعة محتملة، وهم يقدمون على الشراء رغم أنهم يرفعون أصواتهم احتجاجا على ارتفاع الأسعار. كما أنهم مستعدون لدفع ضرائب على مساكنهم حتى وإن كانوا لا يسكنونها إلا في المناسبات والمواسم، وهم حاضرون لدفع أي رسوم عقارية القديمة منها والمتجددة. ورغم ارتفاع الأسعار بصورة لا مثيل لها، يتزاحم المستثمرون على مكاتب العقارات وحلقات المزادات، إلى درجة أن ارتفع عدد هذا النوع من المكاتب في فترات وأماكن ينبغي أن ينخفض فيها. أمام هذه المفارقات، يبدو التحليل المنطقي للقطاع العقاري في هذه المدينة، بعيدا عن المنطق.
حتى الجهات المختصة البريطانية والأجنبية، وكذلك المؤسسات المحايدة التي تناولت موضوع العقارات البريطانية ولا سيما عقارات لندن، توصلت غالبيتها إلى استنتاجات صبت في مصلحة السوق العقارية، بينما وجدت الأقلية منها مخاطر استثمارية على المديين المتوسط والبعيد. ببساطة، المروجون لعقارات لندن أكثر من المحذرين منها. ورغم أن أسعار المنازل في المناطق الراقية تندفع بقوة صاروخية إلى الأعلى، إلا أن أسعار المنازل حتى في المناطق المتوسطة والشعبية حققت ارتفاعات كبيرة للغاية. لقد أصبحت المناطق المتوسطة "بمعايير اليوم" راقية "بمعايير الأمس" من حيث الأسعار، حتى وإن لم تكتس المنطقة الحاضنة لها تلك الصفة. المهم أن العقارات تقع في لندن. وأنك تصل منها إلى وسط المدينة في غضون 20 دقيقة. مع العلم أن هذا الأمر لم يعد مهما كما كان في السابق، لأن لندن تحتضن الآن أحياء عديدة يمكن أن يشكل كل حي منها مركزا للمدينة.
في الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري ارتفعت أسعار المنازل في العاصمة أكثر من 10 في المائة، وهي قابلة للارتفاع حتى قبل أن ينتهي العام المشار إليه. وكلما اقتربت من المناطق الراقية، ارتفعت الأسعار بصورة ليست جنونية فحسب بل خرافية. ووفق آخر إحصائيات بهذا الخصوص، فقد بلغ متوسط سعر المنزل في لندن نصف مليون جنيه استرليني! وهو متوسط لا يستطيع الموظف المتوسط الدخل أن يسعى لشراء عقار، بصرف النظر عن حجمه. وعلى هذا الأساس، تصدرت لندن قائمة المدن حول العالم الأعلى نسبة للسعر إلى الدخل. الأمر في الواقع لا يحتاج إلى إحصائيات. يمكن فقط المرور على واجهات مكتبين أو ثلاثة مكاتب للعقارات في العاصمة البريطانية، لكي تصل إلى الاستنتاج المطلوب. كل ذلك يتم، مع ارتفاع رسوم التسجيل والضرائب.
لكن ليست كل الجهات ترى اللون الوردي على جدران المنازل في بريطانيا ككل، وفي لندن على وجه الخصوص. فقد قدم مصرف "يو بي إس" السويسري بحثا، يحذر فيه من وقوع فقاعة عقارية. ولندن مهيأة أكثر من أي مدينة في العالم لمثل هذه الفقاعة، لأن أسعار عقاراتها تتجاوز قيمتها الحقيقية، علما أن الأسعار الجنونية انفجرت بصورة كبيرة بالفعل في عام 2013، وهذا يرفع من احتمال وقوع الفقاعة العقارية المشار إليها. هناك بعض الجهات البريطانية تحدثت عن مثل هذه الفقاعة في الآونة الأخيرة، وهي تعتقد أن المستثمرين القادمين إلى السوق اللندنية يخاطرون بضخ أموال مبالغ فيها في عقارات لا تستحقها. و"غمزت" هذه الجهات أيضا، من قناة الآثار السلبية التي يتركها المشترون الأجانب على سكان لندن.
غير أن كل هذا الكلام، لم يؤثر في الحراك الهائل للمستثمرين "ولا سيما الأجانب، عرب صينيون، يابانيون، أفارقة، وغيرهم"، الذين يحملون أموالهم إلى بريطانيا بحثا عن عقارات، مستغلين تساهل السلطات في مسألة مصادر الأموال، خصوصا أنه يمكن شراء عقارات بملايين الجنيهات نقدا! ومن "عجائب" عقارات لندن، أنه رغم أن الحذر واجب حتى في الأسواق التي توفر أعلى مستوى من الضمانات، إلا أن أحدا من المقبلين على السوق العقارية البريطانية ليس مهتما بهذا "الحذر"، أكثر من اهتمامه بالعثور على عقار. ولا يهم السعر والرسوم. المال في الحقيبة. عليك أن تضع السعر فقط.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي