Author

عندما صار المليار دولار مجرد «فكة»

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"لا يمكن أن تكون مدينا وتربح. هذا مستحيل" ديفيد رامسي، كاتب ومؤلف اقتصادي أمريكي في الديون، تتساوى البلدان الفقيرة والغنية في همومها، وإن اختلفت في عبئها. الأغنياء يحاولون الإيحاء لأنفسهم، بأن الديون مرحلة عابرة، بينما الفقراء ينظرون إليها كحالة مستدامة. وأيا كانت النظرات والإيحاءات، فالديون تبقى قائمة على محاورها الثابتة. هي قاصمة، مكبلة، ثقيلة. إنها تنقل آثارها إلى عقود مقبلة من الزمن. وإذا كان المدين غنيا، ففضيحته أعلى صوتا من فضيحة الفقير. في الواقع لا يمكن وصف دين الفقير بالفضيحة، لأنه لولا هذا الدين الثقيل المكبل، ما كان استمر في مسيرة حياته، ولا كان وفر الحد الأدنى لوقودها. دون أن ننسى، أن الأغنياء والفقراء على حد سواء، ينقلون أعباء ديونهم إلى الأجيال القادمة. هم "يسرقون" في الحقيقة، أولادهم وأحفادهم وأحفاد أحفادهم. "يسرقون"؟ نعم، لأنهم غالبا ما يفشلون في تسديد ديونهم. الديون تواصل هزها العنيف في كثير من الحالات للنظام المالي العالمي. بل إن منطقة كمنطقة "اليورو"، لا تزال تهتز من جراء إنقاذها ماليا دولة مدينة واحدة هي اليونان. وترتعد خوفا من اضطرارها إلى إنقاذ بلدان أوروبية أخرى، قد تنضم إلى الحفرة اليونانية، دون أن نغفل، أن أثينا لا تزال في حالة إنقاذ، أي أنها لم تنقذ بصورة أكثر استدامة. في غضون 15 سنة تقريبا، عجزت عشر دول حول العالم عن سداد ديونها، منها الأرجنتين والإكوادور وروسيا والأوروجواي وجامايكا وغيرها. وهناك بلدان تقف عند حافة العجز في السداد، بما فيها البرازيل وأوكرانيا وغيرهما. هذه بلدان ليست فاشلة قياسا ببلدان أخرى مثل زيمبابوي وبعض الدول الإفريقية، التي تجاوزت مرحلة العجز إلى الشلل الاقتصادي التام. نحن ببساطة نعيش في عالم مفلس، تصعب رؤية قممه من فرط "بحار" الديون. وتكفي الإشارة هنا إلى ما أعلنه مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)، بأن الديون السيادية حول العالم ارتفعت إلى ماذا؟ إلى 199 تريليون دولار. مقابل ماذا؟ مقابل21 تريليون دولار قبل نحو ثلاثة عقود فقط. أي أن هذه الديون ارتفعت بأكثر من 6.5 تريليون دولار كل عام على مدى 30 سنة! وهي ماضية في الارتفاع، في حين لا توجد في الأفق أي مخططات مقنعة، بأن تتمكن غالبية البلدان المدينة من خفض ديونها الهائلة. بعض هذه البلدان، وهي من تلك المنتمية للعالم المتقدم، تجاوزت ديونها حجم ناتجها المحلي الإجمالي مرتين! وسط نمو، إما ساكن، أو لا يذكر، أو متواضع إلى حد كبير. في عامي الأزمة 2007 و2008 أضيفت إلى الديون السيادية 57 تريليون دولار. وإذا كان هذا الأمر مفهوما من فرط ضربات أزمة لا تزال نشطة حتى اليوم، إلا أنه ليس مفهوما كيفية تعاطي البلدان المدينة مع هذه الكارثة. الكل يحمل الأزمة العالمية المسؤولية، لكن الكل أيضا لم يعد يتحدث عن المتسبب، ولا حتى عن الأطر الضامنة لعدم وقوع أزمة مماثلة في المستقبل. دعك من الإصلاحات البطيئة جدا التي لا تزال تسير بسرعة السلحفاة في القطاع المالي العالمي، ودعك أيضا، من وعود حكومات لا تريد إلا البقاء أطول فترة ممكنة في السلطة، ودعك من التباكي على أخطاء "الآخرين". تسير الحياة الاقتصادية في هذا العالم، على حافة الهاوية، مكبلة بديون بات المليار دولار فيها مجرد "فكة"، لكن (يا للهول) هذه "الفكة" ليست متوافرة حتى. مأساة الديون لا تكمن هنا فقط، بل تشمل أيضا الشركات والمؤسسات في غالبية بلدان العالم، ولا سيما الناشئة منها. فطبقا لـ "أونكتاد"، تضاعفت الديون الخارجية، للشركات في الأسواق الناشئة، ثلاث مرات من عام 2008، لتصل لأكثر من 2.6 تريليون دولار. دون أن ننسى، أن العالم، والولايات المتحدة في مقدمته تبني أبراجا من الأوهام حول المحورية العالمية لهذه الأسواق في المستقبل. تعمل بالديون، وتستثمر بالديون، ولكن النمو المرجو لا يذكر أمام استحقاقات هذه الديون. هذا هو الحال الراهن في العالم. إنه خليط من فوضى اقتصادية، وفشل مالي، وأزمات محلية وإقليمية سرعان ما تظهر روابطها العالمية على الساحة. المصيبة، أن أزمات الديون السيادية في الاقتصادات النامية (بحسب أونكتاد) والاقتصادات التي تمر بمرحلة انتقالية، ليست ناشئة عن إسراف مالي غير مسؤول، بل إنها تحدث على الأرجح نتيجة لتدخل الحكومات، لإنقاذ القطاع الخاص غير القادر على سداد ديونه. لا أعرف لماذا لم تقم "أونكتاد" بإعلان 200 تريليون ديونا سيادية، فتريليون إضافي آخر، لن يحدث فرقا في المصيبة المالية العالمية، خصوصا أن هذه الديون ماضية في ارتفاعها، لتحمل العالم معها إلى القاع. عالم متقدم.. عالم غير متقدم..عالم ناشئ.. الذي يحدث الآن أن ديون العالم تتقدم بأسرع وتيرة، ليس منذ قرن من الزمن، بل منذ أقل من عقد فقط! ولا تبدو الدعوة لإيجاد آلية لمعالجتها ذات معنى أو قيمة.
إنشرها