حين تفضي الإيحاءات العنصرية إلى تهافت المشاهدين

حين تفضي الإيحاءات العنصرية إلى 
تهافت المشاهدين
حين تفضي الإيحاءات العنصرية إلى 
تهافت المشاهدين

لماذا نفتتن بتلك الأفلام والروايات التي تتعمق في تجسيد الهوة بين الطبقة الغنية والأخرى الفقيرة؟ هناك متعة خفية للمشاهد العادي وهو يرقب شخصية أرستقراطية تصطدم بذهول بالفروقات الحياتية بينه وبين أشخاص لا يشاطرونه بذخ حياته.

الفيلم الفرنسي "المنبوذون" الذي تم إخراجه في نوفمبر عام 2011، يعد من تلك الأفلام، إذ يقتبس فكرته من قصة فعلية ما بين ثري أوروبي تعرض لإعاقة جسدية، وآخر من أصول عربية قدم لمساعدته فتوطدت بينهما علاقة تناغم وتفهم للآخر. وعلى الرغم من أن الفيلم الذي أخرجه كل من إيريك توليدانو وأوليفيير ناكاش، قد يفهم على أنه رمز لتلك النظرة الاستعلائية للأوروبيين حيال المهاجرين. فشخصية العربي استحالت في الفيلم إلى دور "إدريس" الرجل الأسود الذي يعيش في الأحياء الفقيرة، وينظر منبهرا إلى غرفة النوم وحوض الاستحمام اللذين بإمكانه استخدامهما أثناء عيشه في قصر فيليب. إلا أن الفيلم بفكرته التقليدية حصد عدداً ضخماً من المشاهدين، بل أصبح يعد من أكثر الأفلام الفرنسية مشاهدة، إذ بلغ عدد مشاهديه في ألمانيا وحدها 8.6 مليون، ووصل بشهرته إلى كوريا الجنوبية ليشاهده هناك فحسب ما يزيد على 1.7 مليون شخص.

العنوان ذاته Intouchables أشعل جدلاً كبيراً، فالترجمة الحرفية له تأتي بمعنى "غير القابلين للمس"، وقد ترمز إلى عدة مدلولات أهمها الإشارة إلى طبقة المهمشين أو المنبوذين في المجتمع، وكأنهم أشخاص من الأفضل عدم الاقتراب منهم، كتلك النصائح التي يتلقاها فيليب بالابتعاد عن الشخص الداكن البشرة بسبب فروقات حياته عنهم. من جهة أخرى يأتي تفسير آخر للعنوان بأنه يشير إلى مدى متانة العلاقة بين الرجلين على الرغم من إعاقة الأول وفقر الآخر، المتسببة في نبذهما عن الحياة الاعتيادية. وقد أجاد الفرنسي فرانسوا كلوزيه دور فيليب، وتعبيره عما يخالجه من مشاعر من خلال نظراته وابتسامته الساذجة وإيماءات رأسه، دون القدرة على تحريك جسده. وإن ابتعد الفيلم عن التعمق في نفسيته ومكنوناته، ليلتزم الصمت المطبق والتجلد رغم ألمه. لم يكن هناك إبراز عميق لحالته النفسية المتكدرة حيال إعاقته التي جاءت إثر حادث، كما حدث مع أفلام أخرى أجادت تجسيد الألم والانفصال عن العالم الخارجي والشعور كالفيلم الفرنسي الرائع "دم وصدأ"، الذي أتقنت فيه الفرنسية ماريون كوتيار دورها الأكثر سوداوية ونضحا بألمها وانكسارها إثر إعاقتها. فيلم "المنبوذون" اقتصر على حيثيات رجل مدلل نزق غير مدرك لما يجري في العالم خارج وسطه المخملي، يحاول البحث عن شخص لا يحمل بداخله شفقة، ويذكر دون تحفظ أن الرجل ذا البشرة الداكن أقل قدرة على الإشفاق على الآخرين ما يجعله أكثر قدرة على رعايته دون نظرة شفقة تحيطه في كل مكان. قد يكون ذلك الأسلوب الصريح غير المفتعل حيال تجسيد المهاجرين هو ما أسبغ على الفيلم تلك النجومية العالية، أضف إلى ذلك المسحة الكوميدية، والأداء التلقائي لكل من فرانسوا والممثل السنغالي الأصل عمر سي الذي فاز بجائزة سيزار الفرنسية لأفضل ممثل عن دوره في الفيلم، إذ امتاز بكاريزما خاصة، وقدرة على لفت الأنظار بسرعة البديهة وحس الفكاهة لديه بنظرته الساخرة حيال كل ما يعيشه من تجارب، وتكيفه التلقائي مع المتغير المحيطي.
#2#
نجح كل من المخرجين توليدانو وناكاش، في إبراز تلك الصبغة الدرامية الأقرب إلى الواقع، ومزجها بالفكاهة بأحداث سلسة. يظهر انتماء الفيلم للسينما الأوروبية الواقعية التي تهتم بتفاصيل حيوات الشخوص، بعيداً عن بذخ الإثارة البحت كالأفلام الأمريكية. تمكن الفيلم من جذب المشاهدين على الرغم من الإيحاءات نحو تلك النظرة الدونية. فإدريس ذو الأصول الإفريقية يعتمد على إعانات الضمانات الاجتماعية، بل يظهر وكأنه يحمل عنفاً داخلياً وحسا إجرامياً يؤكدان على النظرة المعممة لقاطني الأحياء الفقيرة، ويفتقر إلى الحس الفني، ويسخر من ذائقة الأثرياء حيال الفن والموسيقى والكتابة الأدبية. وإن كان ذاك ما قد دفع المشاهدين إلى التهافت ومتابعة الفيلم، تلك النظرة الواقعية المختلطة بشيء من النظرة الفوقية. والتركيز على الفروقات ما بين المعيشة الباذخة للغني الأرستقراطي، والحياة البائسة الفقيرة لإدريس وعائلته. كالفرق بين الثياب الأرستقراطية من بزات رسمية وفساتين سهرة سوداء صامتة تقابلها ثياب المهمشين أقرب إلى البساطة وإن كانت هي الأخرى بألوان داكنة، وكأن كلا من الطبقتين يعيشها أشخاص بنفوس متكدرة وكآبة نفسية. ففيليب لا يتعلم فن الاسترخاء ونسيان معوقات حياته إلا من خلال إدريس حين يأتي لرعايته، فيكشف له عن عالم آخر بعيد عن كلاسيكيات الموسيقى والفن والثياب، إذ يعلمه كسر تلك القوانين وتغيير نمطية حياته الرتيبة، والتخلص من القلق والخجل المستديم. يعيش فيليب تلك البساطة التي تحيط بإدريس، كشخص لم يعش حياة باذخة ما يدفعه إلى الشعور بالسعادة بالتفاصيل الدقيقة.

نجح المخرجان كذلك في استغلال رمزية السيارة التي يقودها إدريس بسرعة وإلى جانبه فيليب، في استهلال الفيلم وخاتمته في إشارة إلى الصداقة بينهما والتنقل من حال إلى أخرى في حياتيهما. من ناحية أخرى تظهر تفاصيل بسيطة كارتداء إدريس بزة رسمية داكنة وكأنه تملص من فقره وأصبح شخصاً آخر، إذ تعلق إحدى مساعدات فيليب بافتتان لتخبره بأنه أصبح الآن يبدو وكأنه رجل مهم بسبب ثيابه الجديدة. في نظرة تثير التعجب لخروجها عن المبادئ الأوروبية التي تسعى إلى الابتعاد عن الماديات، والغوص في عمق النفس الإنسانية وقيمها. يستمر الفيلم حتى آنائه في تجسيد التغيرات التي تنتاب إدريس، إذ استفاد من دروس الرجل الأبيض الذي أعطاه تلك الذائقة الفنية التي لم يكن يفهمها، إذ يبدأ في مناقشة امرأة في مقابلة وظيفية عن أعمال سلفادور دالي بثقة، أو يصف نفسه بكلمة "البراجماتية" التي تعلمها من فيليب فأضافها إلى سيرته الذاتية. لتثير أحداث الفيلم التعجب بكيفية قدرته على وضع إسقاطات وملامح تحمل عنصرية حادّة بأسلوب خفيف لا يثير حنق المشاهدين. وكأن الفيلم يستكشف الأنا والآخر، وإن تسبب ذلك في وصف الآخر بالهمجية والجهل.

الأكثر قراءة