ها هنا عند قلبي.. يكاد يلمس حبي

تأملات الإثنين
يسألني عباس الأحمد: ما سر شغفك بالعقاد حتى أنك قلت في إحدى مقالاتك إنه أكبر عقل أدبي في القرن العشرين. وهل أنت ضد فكر طه حسين؟
أصحح قول حبيبنا عباس في موضعين: الأول، أني قلت إن عباس العقاد "يكاد أن" يكون أكبر عقلية أدبية ثقافية في القرن العشرين، وأنا مصمم على هذا الرأي وأزيد أيضا صفة لمعة الذكاء. وطه حسين من أعظم من أنجبت الأمة المصرية بل العربية من الفكر المتعلم تعليما أكاديميا نظاميا متخصصا وأحترم جهاده وعناده وصلابته الفكرية وعمقه التخصصي في النقد والثقافة الفرنسية المعاصرة في وقته، وتعمقه بالثقافتين اليونانية واللاتينية. على أن العقاد كان طفرة عبقرية نادرا ما يجود بها الزمان، فإن كان طه حسين ماسة براقة صافية يبدو العقاد "خامة" ألماس أزرق وإن لم يهذبها صنائعي، إلا أنه من أندر وأغلى أنواع الماس. ودعني يا عباس وأنت تحمل نفس الاسم الأول لمفكري المفضل.. نعود إليه. وهذه العودة مختصرة لا تمس أقل القليل من شخصية هذا العملاق الفكري النادر التكرر والمثال.
عاش العقاد كل حياته جادا وقورا كريما شهما لا يضام. وهو إنساني النزعة، حاد المزاج، عبقرية على فوهة بركان. ومن أكبر من يؤمن بقوة العقل، وهو خير دليل على ما يعتقده.
وتقوم آراء العقاد على ركنين أساسيين: الإيمان بكرامة الإنسان الشخصية، والإيمان المنقطع بحرية الرأي والفكر. وأود التنبيه على فكره الديني المتميز، فهو بكتاباته الدينية يؤمن بأن الإنسان لا يستطيع أن يدرك بحواسه وعقله "الحقائق الكونية". لذا يجد المتابع الشغوف إيمان العقاد بوحدة الكائنات ووحدة الخلق، كما آمن بضرورة الشر في الوجود كضرورة الخير فلولا الشر ما عرفنا الخير. والأستاذ العقاد راسخ العقيدة الإسلامية، مؤمن بوطنه وعروبته "مع أنه ينحدر من أصل كردي!". وللعقاد صفة قليل ما تكون للمفكرين الآخرين وهي ثباته على آرائه، وبالذات الأدبية، فهناك آراء كتبها أول عهده بالكتابة الذي استمر أكثر من 50 سنة، وبقي مؤمنا بها إلى آخر حياته.
شغفي بالعقاد فوق ثقافته الخيالية في مختلف المضامير، ففي الاقتصاد الاجتماعي هو من أفضل من كتب عن الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية، ونقد فكر الألماني كارل ماركس وفيلسوف الشيوعية "انجلز" كما لم يفعل أحد بزعمي. وهو ضالع في علوم كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والفسيولوجيا ويقرأ فيها كما يقرأ المتخصصون.. أقول ليس حبي للعقاد فقط لثقافته الشاسعة وذكائه الخام الفائر، بل أيضا لدفاعه المستمر عن الحرية حتى أنه قرن الجمال بالحرية والحرية بالجمال، وجعلهما شيئا واحدا. فالفكر الجميل عند العقاد هو الفكر الحر الصريح الناضج الذي لا تغله جهالة، ولا يعتريه تزلف ولا رياء.
وأذكر أن جاء من اعترضني وكتب محتجا علي بأن العقاد آمن بالاشتراكية وفكرتها. ووقتها وجهته أن يفهم كيف أن العقاد كان حذرا في وقت عبد الناصر بالبوح ضد الاشتراكية، ولكنه بعبقريته تصدى للرد على كتاب سر تطور الأمم لجستاف جوبون ووضح رأيا مستنيرا حول الموضوع. وفي حديثه ومقالاته التي ظهرت بالأهرام وغيرها أيام الناصرية في تعرضه للاشتراكية أصر بلا تردد على أن جوهرها تحقق على أحسن صورة في القرآن الكريم.
بوقت آخر، فقد ضاق المقام، سأتحدث ـــ بإذن الله ـــ لك أخي عباس عن فلسفة العقاد عن المرأة وسأكون صريحا معك، ولا يمكن أن أغفل قصته الوحيدة "سارة"، ولا احتجاجه الثائر على أحمد شوقي والبارودي عندما أسس مع المازني وعبد الرحمن شكري مدرسة الديوان. وسأحدثك عن العقاد الشاعر، والألسني، والناقد، والباحث. وأخيرا هل كان أسلوب العقاد خشنا كما قال طه حسين، انظر لهذه الأبيات، واحكم:
ها هنا مكان صدارك، ها هنا في جوارك
ها هنا عند قلبي، يكاد يلمس حبي
وفيه منك دليل على المودة، حسبي
نسجته بيديك على هدى ناظريك
إذا احتواني.. فإني ما زلتُ في إصبعيك!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي