منظومة إدارة سوق العمل المحلية «2 من 2»

استكمالا للمقالين السابقين حول التوجهات الجديدة القادمة لوزارة العمل تجاه تحديات تحفيز سوق العمل المحلية، وجعلها أكثر مرونةً وإنتاجية، وربطها بصورة أكثر ارتباطا بالسياسات الاقتصادية الكلية، التي تهدف إلى إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني برمته، ليحقق ما تأخر إنجازه على طريق زيادة التنويع الإنتاجي، وتخفيف الاعتماد الكبير على النفط، والمضي به قدما نحو اقتصاد يرتكز على الإنتاج والتوظيف أكثر من احتياجه إلى الإنفاق الحكومي، الذي هو بدوره يعتمد بصورة مفرطة على عوائد النفط، وصولا إلى أن يصبح النشاط الاقتصادي هو الداعم للميزانية العامة وليس العكس، وأن يصبح الاقتصاد الوطني قادرا على إيجاد قنوات الاستثمار وتنويعها بالصورة المناسبة، التي تمتص فوائض المدخرات المحلية عوضا عن توجهها نحو قنوات المضاربة على أنشطة لا تخدم التنمية، بقدر ما أنها تلحق أضرارا بالغة بالاقتصاد ومستويات التنمية المستدامة؛ وتسببها في تضخم أسعار الأصول ما أدى إلى رفع تكلفة الإنتاج والمعيشة على حد سواء، ودفعها غير المحمود لزيادة التباين في مستويات الدخل بين طبقات المجتمع، الذي يعد من أخطر الآفات التي قد تبتلى بها الاقتصادات المعاصرة. هذا إضافة إلى أهمية أن تتوافر لدى الاقتصاد الوطني نتيجة لكل ما تقدم من إيجابيات مأمولة، القدرة على إيجاد مزيد من الوظائف الملائمة للباحثين عن فرص العمل الكريمة والمناسبة.
إننا في مواجهة أعداد كبيرة قادمة على سوق العمل المحلية، ففي الوقت الذي يستوعب التعليم العالي لدينا أكثر من 1.4 مليون طالب وطالبة من السعوديين، يضخ سنويا من حديثي التخرج نحو 10-11 في المائة منهم لسوق العمل (نحو 140 ألف طالب وطالبة)، بمعدلات نمو سنوية تتجاوز الـ 4-5 في المائة، عدا خريجي الدبلوم والثانوية العامة ومختلف المعاهد الفنية الأخرى بأعداد تتجاوز خريجي الجامعات وبرامج الابتعاث، ليصل المجموع الكلي سنويا لأعلى من 300 ألف خريج وخريجة، يقدر نموه السنوي بالمعدل المذكور أعلاه 4-5 في المائة، كل هذا ينبئ عن تنام كبير لتحدي توظيف العاطلين في بلادنا، وبالعودة إلى رصيد العاطلين عن العمل الذي يناهز وفقا لأحدث البيانات 651.3 ألف عاطل (أي أعلى من ضعف خريجي العام المالي الواحد بأرقام اليوم)، فإن التحدي التنموي هنا سيصبح كبيرا جدا، فأنت أمام تحد مكون من: (1) ضرورة إيجاد الوظائف لرصيد العاطلين عن العمل. (2) ضرورة إيجاد الوظائف لحديثي التخرج من التعليم.
إن أهم سبب وراء عدم قدرة برامج التوطين السابقة (على رأسها نطاقات)؛ أنه انطلق لمعالجة كل تلك التحديات الجسيمة بالإبقاء على التشوهات في سوق العمل، المستمدة في الأصل من تشوهات الاقتصاد الكلي! وتعامل من ثم معها على أنها (مسلمة) من مسلمات الاقتصاد والسوق على حد سواء، ولهذا كان من الطبيعي جدا أن تنتهي جدواه، وأن يستنزف كل قوته الظاهرة في منظور عدة سنوات قليلة جدا، وهو ما حدث كما نشهد اليوم، وهو ما عبر عنه بوضوح تام التقرير الأخير لوزارة الاقتصاد والتخطيط! ليتأكد للجميع وفي مقدمتهم وزارة العمل، أن العودة إلى المربع الأول أصبحت واجبة ولازمة؛ والمربع الأول هو ما تمت الإشارة إليه طوال الأعوام الأربعة والنصف الماضية، وهو ما تم تلخيص رؤيته في مقدمة هذا المقال أعلاه، أن معالجة تشوهات سوق العمل تبدأ في خطوة مبكرة من معالجة تشوهات الاقتصاد الكلي، ومن ثم ستفتح الآفاق الرحبة الواسعة أمام سوق العمل، ليتحول على النقيض تماما من التشخيص الذي وضعه تقرير وزارة الاقتصاد والتخطيط لسوق العمل (القطاع الخاص)، بعدم كفاءته لأن يكون حلا لامتصاص مئات الآلاف من العاطلين، في الوقت الذي هو على وضعه الراهن ليس صالحا إلا إلى إيجاد وظائف غير إنتاجية، ولهذا السبب كان جاذبا بشدة لاستقدام ملايين من العمالة الوافدة المتدنية المهارات والتعليم، وفي الوقت ذاته عاجز تماما عن توظيف مخرجات التعليم العالي والعام والفني من المواطنين!
إنها الخطوة الأهم المنتظرة من وزارة العمل في سياق توجهاتها الجديدة، ليتم التعامل مع تحديات سوق العمل المحلية وفق منظومة عمل حكومية ومن القطاع الخاص، تتوافر لديها الرؤية الأشمل والأوسع تجاه تحديات الاقتصاد الوطني بأكمله، وفي مقدمتها تحديات سوق العمل، وهو على العكس تماما من طريقة المعالجة السابقة، تحت مظلة برامج عديدة وكثيرة جدا ابتكرتها وزارة العمل طوال الأعوام الأخيرة.
لهذا؛ تؤكد التحديات الراهنة والقادمة على الاقتصاد الوطني وسوق العمل المحلية، أن أدوات الحل والعلاج من الواجب أن تختلف كليا وتفصيليا عن كل ما مضى من برامج للتوطين، وهو أمر لا يشك فيه عاقل؛ فمع تغير الإطار والرؤية التي سينظر إلى سوق العمل من خلالها، التي ستكون -كما تقدم ذكره- ذات أطراف أخرى غير وزارة العمل، لا بد أن يتغير كل ما ينتج عنها من معايير وإجراءات لتنظيم سوق العمل، التي ستتحول من خلال تلك الرؤية الشاملة إلى جزء من كل ستتم معالجته، وليس كما كان سابقا كل بغض النظر عما يجري في بقية نشاطات الاقتصاد الوطني!
إنها الخطوة التنموية الجيدة التي يؤمل أن تستمر وزارة العمل وفق ما أعلنت عنه حتى تاريخه، لتكون قائدا ضمن منظومة أوسع من الأجهزة الحكومية وفي القطاع الخاص، التي تتمتع كل واحدة منها بالإشراف والتأثير والقوة على القطاع أو النشاط الذي تشرف عليه، فتكون بمثابة المؤشر الذي يحدد وينظم وينسق العمل في اتجاهات يخدم بعضها البعض، لا أن تتضارب أو تتصادم مع بعضها البعض. إنني على يقين تام بأن عملا بهذه الآليات والتوافق والتنسيق المشترك والمستمر، ستكون له الآثار الإيجابية الأكثر نفعا وجدوى للاقتصاد والمجتمع على حد سواء، وقد لا تظهر نتائجه الإيجابية في المنظور القريب، إلا أنها بمجرد الظهور ستكون أكثر ديمومة واستمرارا وحياة، وأكثر نفعا لكافة الأطراف، وليس لمصلحة طرف على حساب طرف آخر، كما أنها ستتيح حلولا مستدامة طويلة الأجل لأحد أهم قضايا وتحديات الاقتصاد والمجتمع، تتيح آفاقا واسعة من الخيارات التنموية المجدية لقطاع الأعمال وللباحثين عن فرص عمل من المواطنين والمواطنات على حد سواء، وتخرجنا من نفق التضارب الراهن بين مصالح عديد من الأطراف، فقد تتخذ قرارات معينة لمصلحة قطاع الأعمال، إلا أنها تأتي على حساب العمالة الوطنية، وقد يحدث العكس! وهذا لم يحدث إلا بسبب التزاحم في النقطة الضيقة التي تقف عليها سوق العمل المحلية، في حين إن العمل وفق منظومة أوسع سيتيح لنا جميعا الانتقال بالاقتصاد الوطني وبالسوق إلى مواقع أكثر انفتاحا وأوسع خيارات، وهو المنتظر والمأمول -بمشيئة الله- من وزارة العمل وفقا لتوجهاتها الأخيرة المعلن عنها. والله ولي التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي