FINANCIAL TIMES

هاييتي تنهض متثاقلة من أنقاض زلزال 2010

هاييتي تنهض متثاقلة من أنقاض زلزال 2010

للوهلة الأولى، يعتبر سوق الحديد في بورت أو برنس معلما من معالم النهضة في هاييتي. بعد إعادة ترميمه بطوب من طراز العصر الفيكتوري وبمعادن تغلف سقفه، أصبح عشرات الباعة يحتمون به من الشمس الحارقة، وهو يرمز إلى تجدد الطاقة والاستثمار في بلد دمره زلزال قبل خمس سنوات فقط بصورة شديدة للغاية وقتل 230 ألف شخص من قاطنيه. ومع ذلك، فإن البناء الذي يتضمن أربع منارات في قلب العاصمة يسلط الضوء أيضا على هشاشة البلاد واستمرار اعتمادها على النفوذ الأجنبي المتقلب. الهيكل التاريخي الذي تم شراؤه من فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر، تعرض للإهمال وأصبح في حالة سيئة قبل وقت طويل من عام 2010. تم ترميمه بعد الزلزال بمنحة بمبلغ 18 مليون دولار تبرع بها دينيس أوبراين، وهو صاحب مشاريع اتصالات إيرلندي، وكان السوق الذي أعيد تجديده قد افتتحت في 2011 من قبل الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون. لكن بعيدا عن ظل هذه الواجهة الجميلة، وعلى الرغم من وجود غيرها من علامات التقدم، لا تزال هاييتي واحدا من أفقر البلدان في العالم. وقد كشفت دراسة للبنك الدولي في نيسان (أبريل) أن ربع السكان البالغ عددهم عشرة ملايين نسمة يعيشون على أقل من 1.23 دولار يوميا. لكن هناك علامات تدل على النشاط الاقتصادي الجديد والإصلاح السياسي، ابتداء من فندق ماريوت الذي افتتح أخيرا لاستضافة الزوار من رجال الأعمال الأجانب، إلى ارتفاع نسب الحضور في المدارس الحكومية التي تم بناؤها حديثا، والدعم الحكومي للمدارس الخاصة. وهذه علامات تعبر عن تطور كبير منذ الهزات في عام 2010 التي خلفت 1.5 مليون شخص بلا مأوى ودمرت آلاف المباني في أنحاء المدينة. يقول ويلسون ليلو، وزير المالية منذ عام 2011: "أحرزت هذه الحكومة تقدما هائلا". ويضيف: "في غضون أربع سنوات، كان هناك عدد هائل من الأشياء التي تغيرت. قمنا ببناء الطرق والجسور وأكثر من 100 مدرسة. هناك مشاريع في كل حي من أحياء البلاد. ستعود هاييتي إلى الظهور من جديد". والسؤال بالنسبة للسكان المحليين الذين يستعدون لإجراء انتخابات جديدة هذا الصيف، ليس ما إذا كان بإمكان هاييتي إصلاح الأضرار المادية خلال فترة وجيزة بعد وقوع الزلزال. بدلا من ذلك يريدون أن يعرفوا ما إذا كان بإمكانهم أن يحرروا أنفسهم من دائرة الضعف والتبعية التي أسهمت في الدمار الناتج عن الزلزال في المقام الأول: عقود من الإهمال وضعف المؤسسات وتقلبات التدخل الأجنبي. في الوقت نفسه، تواجه هاييتي تراجعا في المساعدات الخارجية والمنافسة على الاستثمار - بما في ذلك من جارتها الشمالية كوبا بعد تقاربها مع الولايات المتحدة. يقول روبرت ماغواير، أستاذ ممارسات الشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن في الولايات المتحدة: "ما أراه هو الكثير من الحديث وعلاقات عامة جيدة". ويضيف: "إذا نظرتم إلى تاريخ هاييتي، فإن أولئك الذين يملكون القوة الاقتصادية استغلوها دائما لمصلحتهم الخاصة وأولئك الذين يملكون السلطة السياسية استغلوها للوصول إلى للحكم". جزيرة هيسبانيولا أحد التناقضات الصارخة يتمثل في الدومينيكان، جارة هاييتي الشرقية الأغنى بكثير، التي تشترك معها في الجزيرة الكاريبية، هيسبانيولا. ففي حين أن البلدين يشتركان في تراث العبودية والدكتاتورية وعدم الاستقرار، إلا أن الدومينيكان برزت أكثر ازدهارا على مدى نصف القرن الماضي. في عام 1960، كان لهاييتي دخل الفرد نفسه الذي كان للدومينيكان. ومنذ ذلك الحين، ارتفع الرقم ثلاثة أضعاف في الدولة المجاورة بينما انخفض إلى النصف في هاييتي. جاريد دياموند، وهو أستاذ في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، أشار في كتابه "الانهيار" إلى أن الفرق يعزى إلى الجغرافيا. فأكبر كثافة سكانية في هاييتي تعيش في مساحة أصغر، كما يقول، جنبا إلى جنب مع انخفاض هطول الأمطار والتربة الأقل خصوبة، التي يعتبر من الصعب جدا زراعتها، كل ذلك أدى إلى مزيد من إزالة الغابات وتدهور الإنتاجية الزراعية. ويشير آخرون إلى التاريخ. ففي حين كانت الدومينيكان مستعمرة إسبانية استمرت في جذب الاستثمارات والمهاجرين، تم عزل هاييتي بعد حربها من أجل الاستقلال عن فرنسا كأول دولة سوداء في العالم في عام 1804. ومع ذلك، استمر التلاعب بها من قبل القوى الأجنبية، ابتداء من استمرار مطالب باريس بسداد ديون إلى مزيد من التدخلات العسكرية الأخيرة من جانب الولايات المتحدة. وفي حين أن الدومينيكان توازن الاستثمار الداخلي مع الاستبداد، حتى بعد اغتيال الرئيس رفائيل تروخيو في عام 1961، وقعت هاييتي تحت السيطرة المتطلعة إلى الداخل الأكثر قمعية لفرانسوا دوفالييه، ديكتاتور هاييتي القمعي، وابنه "الطبيب الابن" من عام 1957 حتى عام 1986. في تلك الفترة ذهب كثير من المواطنين إلى المنفى، حارمين بذلك وطنهم من المواهب والطاقة، وكونوا شتاتا مزدهرا يبلغ تعداده أربعة ملايين شخص في الولايات المتحدة وكندا وفرنسا. بعد هرب جان كلود دوفالييه في عام 1986، كانت تنتشر فيها الانقلابات والإطاحة بالقادة المنتخبين، بمن فيهم جان برتران أريستيد، الذي أطيح به مرتين. ليزلي فولتير، وهو مسؤول سابق في إدارته، يقول: "كان لدينا قرنان من الظلم للأغلبية، تلاهما عقدان [حتى منتصف العقد الأول من القرن الحالي] من التحرير دون نظام". الشتات لا يزال يوفر خمس الدخل القومي من خلال التحويلات التي تصل إلى ملياري دولار لدعم الأسر في الداخل. وتوفر المساعدات الخارجية تقريبا النسبة نفسها مرة أخرى، ما يطغى على الموارد المولدة داخليا في البلاد، وكما يقول مراقبون، تؤدي إلى تقويض أنظمة الحوكمة فيها. في كانون الثاني (يناير) تجمع الهاييتيون عند مؤسسة كلينتون في نيويورك، للتعبير عن الإحباط إزاء ما يعتبرونه عدم إحراز تقدم رغم مليارات الدولارات التي تم التعهد بها منذ وقوع الزلزال. يقولون إن المشاريع البارزة التي تدعمها المؤسسة، بما في ذلك الحديقة الصناعية كاراكول وفندق ماريوت، تحقق تقدما بطيئا وتعتبر في مصلحة المستثمرين الأجانب والنخبة في البلاد أكثر مما هي في مصلحة الأغلبية الفقيرة. ويقول مايكل شيفتر، رئيس الحوار بين البلدان الأمريكية، وهي مؤسسة أبحاث أمريكية: "مهما كان مقدار المساعدات الخارجية التي تصب فيها، هناك فرصة ضئيلة لهاييتي لتسير على مسار متين ما لم تتمكن الدولة من أن تؤدي وظائفها الأساسية. لا يمكن أن يحل محلها لاعبون آخرين، حتى أصحاب النيات الحسنة". ويشير المتفائلون إلى إحراز تقدم كبير في هاييتي منذ عام 2010، خصوصا في البنية التحتية. في عام 2011، أصبح مايكل مارتيلي، وهو مغن محلي مثير للاهتمام، رئيسا للبلاد، ما يشير إلى التحولات السياسية السلمية منذ الاستقلال في هاييتي. لكن علاقاته مع البرلمان كانت متوترة منذ البداية، مع الجمود بشأن الإصلاح التشريعي الذي أدى إلى حل المجلس الوطني في العام الماضي والحكم بموجب مراسيم رئاسية. وقد تم حتى الآن جدولة انتخابات جديدة في آب (أغسطس) وانتخابات رئاسية في تشرين الأول (أكتوبر). في أماكن أخرى تم تشديد الإجراءات الأمنية. كان هناك تشجيع فعال للسياحة والمنسوجات - الصادرات الرئيسية في البلاد. وبناء الطرق والمرافق المجتمعية المحلية. نقص المانحين تواجه هاييتي عقبات لتحقيق النمو في المستقبل. إحدى تلك العقبات هي تحديد مصادر جديدة للدخل. لا تزال قاعدتها الضريبية منخفضة، والدعم من الشتات راكد، والمال من المانحين ينفد. يقول غريغوار غودستين، المدير المحلي لبعثة المنظمة الدولية للهجرة: "انتقل المجتمع الدولي إلى أزمات أخرى مثل إيبولا وبذلك لم تعد هاييتي أولوية". المساعدات السنوية التي بلغت مليار دولار قبل وقوع الزلزال تضاعفت ثلاث مرات بعد ذلك، لكنها الآن آخذة في انخفاض. أوغستين أجوير، رئيس مكتب هاييتي التابع للبنك الأمريكي للتنمية، يقول: "خفضت بعض البلدان التبرعات وعملية الحصول على التزامات جديدة أصبحت أكثر صعوية نظرا للأزمات أخرى والاقتصادات التي تعاني المتاعب. ولدى بعض آخر التزامات حتى عام 2020. والسؤال الكبير هو ما سيحدث في 2021؟ كيف سننتقل من اقتصاد ممول من الجهات المانحة إلى واحد مستدام تتم إدارته بواسطة الهاييتيين؟". كانت أكبر مفاجأة لمارتيلي هي "بتروكاريبي"، برنامج النفط المدعوم الذي تقدمه فنزويلا منذ عام 2008، الذي أضاف مبلغا مقداره 400 مليون دولار سنويا إلى ميزانية الحكومة. وعلى الرغم من بعض الإعفاء من الديون في عام 2010، إلا أن هيكل البرنامج يعني أن أي انخفاض في أسعار النفط العالمية يزيد شروط السداد بالنسبة لهاييتي. لكن مع متاعب فنزويلا الآن من الناحية الاقتصادية، فإن كثيرين يعتقدون أن البرنامج تحت التهديد. غريغوري براندت، رئيس المنتدى الاقتصادي للقطاع الخاص، الذي يمثل عددا من الشركات الرائدة، يقول إن البلاد تسير إلى الوراء: "تحسنت صورة هاييتي على مدى السنوات الخمس الماضية، لكن إذا نظرت إلى ما هو أعمق من ذلك فإننا عدنا [إلى المكان نفسه الذي كنا فيه قبل] وقوع الزلزال (...) كان لدينا نافذة من الفرص، لكن الآن كوبا تنفتح والمال سيطير فوق رؤوسنا إلى هناك". عند أقل من 200 مليون دولار في العام، لا يزال الاستثمار الأجنبي متواضعا وغير متوازن، تعرقله البيروقراطية الثقيلة، وملكية الأراضي غير الشفافة، والمستوى الرديء للطرق والكهرباء وإمدادات المياه. ويقول أحد المسؤولين الدوليين: "لديك ديجيسيل [الشركة المزودة للاتصالات التي يملكها أوبراين]، وهاينكن وسي آي [مصنع المنسوجات الكورية]. لا يوجد [مستثمر] رقم أربعة". ومعظم العمالة الرسمية توجد في قطاع الزراعة والأعمال الأخرى ذات الأجر المنخفض، التي لا تتطلب مهارة في مصانع الغزل والنسيج. ولا تزال النسبة الكبيرة من الاقتصاد محتجزة في أيدي نحو عشر عائلات محلية، طالما كان ينظر إلى أفرادها على أنهم وسطاء السلطة الذين يؤثرون في السياسة للحد من التنويع أو المنافسة. وهناك عدد قليل من المصارف الأجنبية وشروط الإقراض المحلية تعتبر مرتفعة. ولا يوجد استثمار يذكر في الزراعة وهاييتي التي كانت في السابق تعتمد على نفسها بالنسبة للأرز، تعتمد الآن على المشتريات من الخارج. ويقع الإنتاج المحلي أيضا تحت ضغط الأسعار المنخفضة للدجاج والبيض وغيرهما من المنتجات المستوردة من الولايات المتحدة وعبر حدودها مع الدومينيكان. وهناك قضية أكثر جوهرية بالنسبة إلى هاييتي هي مؤسساتها الضعيفة: ولا سيما القضاء، والضوابط والتوازنات في الحكومة التي تتهم على نطاق واسع بالتعتيم والفساد. صوفي دي كاين، رئيسة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقول: "يحتاج الاستثمار إلى سيادة القانون. هناك طريق طويل لنقطعه". ويقول فولتير: "ركز مارتيلي على تشييد المباني بدلا من المؤسسات". وهو يشير إلى تقرير صريح بشكل غير معتاد صدر عن غرفة الحسابات العامة في هاييتي يسلط الضوء على انعدام الشفافية في توزيع أموال النفط الكاريبي. ويسلط الضوء أيضا على الكيفية التي يتم بها منح معظم عقود البناء من قبل الدولة لمجموعة صغيرة من الشركات دون مناقصات، وأن العمل في كثير من الأحيان لا يكتمل. ماريز نارسيس، السياسية المقربة من أريستيد التي تخطط للترشح في الانتخابات الرئاسية، تصف التقرير بأنه "مثير للقلق" وتقول إن إرث مارتيلي يعتبر "كارثيا" بالنسبة لهاييتي. وتحذر قائلة: "إن الحكومة الجديدة ستواجه وضعا كارثيا". ولا يزال عديد من مشاريع البناء بعد الزلزال غير مكتمل. لكن لوران لاموث، الذي اضطر إلى الخروج من منصبه رئيسا للوزراء في العام الماضي، يقول إن إدارته فعلت ما في وسعها لمعالجة المشاكل الأكثر إلحاحا بعد وقوع الكارثة. ويضيف لاموث الذي رشح نفسه لرئاسة الجمهورية: "أنت تفعل ما تستطيع مع ما لديك من معطيات. كانت البلاد كلها قد انهارت، مع عدم وجود بناء منذ سنوات. كان تطورا بميزانية محدودة". ويضيف: "بناء المؤسسات يستغرق وقتا".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES