أخبار اقتصادية

موجات الهجرة المتتالية تغير موازين القوى الاقتصادية في القارة العجوز

موجات الهجرة المتتالية تغير موازين القوى الاقتصادية في القارة العجوز

موجات الهجرة المتتالية تغير موازين القوى الاقتصادية في القارة العجوز

لا تثير قضية جدلا أوروبيا بقدر ما تثيره قضية الهجرة، سواء كانت شرعية أو غير شرعية، وسواء كانت بين دول الاتحاد الأوروبي أو من خارج القارة الأوروبية إليها. وأضحت قضية الهجرة حديث الساعة بين بلدان الاتحاد الأوروبي، سواء لتحول البحر الأبيض المتوسط إلى مقبرة كبيرة للراغبين في الهجرة إلى البلدان الأوروبية، أو نتيجة الأزمة الاقتصادية المستمرة في بلدان الاتحاد منذ عام 2008. ومع انخفاض معدلات النمو، وارتفاع معدلات البطالة، وشعور المواطنين في الاتحاد بأن مستوى معيشتهم في تراجع، كل هذا دفع بكثير من الاقتصاديين، خاصة من أصحاب التوجهات المحافظة إلى تحميل المهاجرين جزءا كبيرا من مسؤولية تدهور الأوضاع الاقتصادية. ومع هذا فإن كيفية التعامل والتصدي لتلك القضية، بل حتى تقييمها ومعرفة انعكاساتها وتداعياتها الإيجابية والسلبية على الاقتصاد الأوروبي، لا يزال محل خلاف بين المختصين وصناع القرار، فلا توجد دولة واحدة من بلدان الاتحاد تمتلك رؤية شاملة للتعامل مع الهجرة والمهاجرين، ولا يوجد اتفاق بين 28 دولة هم أعضاء الاتحاد الأوروبي حول تداعيات الهجرة الشرعية على اقتصادهم. وفي كثير من الأحيان تتضارب الأرقام سواء من حيث عدد المهاجرين بين بلدان الاتحاد الأوروبي، وتأثير هجرتهم في اقتصادات بلدانهم الأصلية أو في اقتصادات الدول المستقبلة لهم، وغالبا ما تشهد الاجتماعات والمؤتمرات الاقتصادية للاتحاد، صراعا حادا بين دول الأطراف المرسلة للعمالة مثل بلغاريا ورومانيا وبولندا، ودول المركز المستقبلة لها مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا. الدكتور كيلي أندرو الاستشاري في الاتحاد الأوروبي والمختص بقضايا الهجرة يعتبر أن السؤال الذي يجب طرحه في هذا الموضوع يمكن اختصاره في: هل تنقل العمالة بصورة شرعية مفيد اقتصاديا للأطراف كافة أم لا؟ وأضاف أندرو لـ "الاقتصادية"، أن "الفكرة الرئيسية وراء مشروع الاتحاد الأوروبي هي إقامة اتحاد اقتصادي يسمح فيه لرؤوس الأموال والعمالة بالتنقل بحرية تامة بين البلدان الأعضاء، بهدف تعظيم المنفعة الاقتصادية، وآلية تحقيق ذلك هي قوى السوق عبر الطلب والعرض"، وهذه الفكرة تشهد الآن معارضة من بعض البلدان الرئيسية في الاتحاد وتحديدا بريطانيا، وذلك على الرغم من أن عديدا من المؤشرات الاقتصادية تشير إلى المساهمة الإيجابية للمهاجرين الشرعيين في الاقتصاد الكلي. وحول أسباب تنامي الأصوات المعارضة للهجرة الشرعية من قبل البعض، يؤكد أندرو أن السبب الرئيسي وراء ذلك ينبع من أن الجزء الأكبر من الهجرة بين بلدان الاتحاد، لا يزال في اتجاه واحد، من دول الأطراف لدول المركز، إضافة إلى أن جزءا كبيرا من المهاجريين الشرعيين من أصحاب المهن اليدوية التي لا تتطلب كفاءة عالية، وتقبل بالحد الأدنى من الأجور، ومن ثم فإن أصحاب تلك المهن من السكان الأصليين يجدون صعوبة في إيجاد وظائف لهم، والنتيجة هي معاداتهم للمهاجرين. #2# الباحث الاقتصادي ديفيد أليسون من مركز جامعة لندن للبحوث وتحليل الهجرة، يوضح بالأرقام ضرورة التفريق بين الهجرة الشرعية بين بلدان الاتحاد الأوروبي، التي يعتبرها أنها تصب في زيادة الناتج المحلي الإجمالي للدولة، وترفع من مستوى المعيشة العام للسكان، والهجرة غير الشرعية القادمة من إفريقيا في الأساس وتؤدي إلى زيادة العبء المالي على الميزانية العامة وعلى دافعي الضرائب. وأشار أليسون إلى أنه بالنسبة إلى بريطانيا على سبيل المثال فقد أضاف المهاجرون من بولندا والدول التسع الأخرى التي انضمت للاتحاد الأوروبي في عام 2004 نحو خمسة مليارات استرليني أو أكثر بشكل صاف للاقتصاد البريطاني، وإجمالي مساهمتهم خلال العقد الماضي بلغت 20 مليار استرليني، بينما تلقوا خدمات لم تتجاوز قيمتها 15 مليار استرليني. وقال أليسون "إن هذا لا ينطبق على المهاجرين غير الشرعيين القادمين من خارج الاتحاد الأوروبي، وتحديدا شمال إفريقيا وجنوب الصحراء وجنوب آسيا، فخلال الـ 17 عشر عاما الماضية مثلوا أعباء على الدولة ودافعي الضرائب بلغت تقريبا 17 مليار استرليني أو ما يعادل مليار استرليني سنويا". وكشفت دراسة حديثة للاتحاد الأوروبي أن المهاجرين الشرعيين بين دول الاتحاد، يدفعون 13 في المائة ضرائب أكثر مما يتلقون من خدمات صحية وتعليمية من الدول التي يهاجرون إليها، وأن المساهمة الاقتصادية للمهاجرين الشرعيين بين بلدان الاتحاد تبلغ في المتوسط 463 جنيها استرلينيا في الثانية الواحدة. إلا أن الجانب المثير للاهتمام في الدراسة هو أن مساهمة المهاجرين الشرعيين لا تقف عند حدود المساهمة في الناتج المحلي الإجمالي، عبر القيمة المضافة، لما يقدمونه من خدمات وأعمال، بل على العكس من التصورات النمطية السائدة بأنهم يرفعون من معدلات البطالة المحلية. وبحسب الدراسة فإن 6.8 في المائة من المهاجرين الشرعيين من المحتمل أن يقوموا بتأسيس شركات خاصة بهم، مقارنة بالسكان الأصليين للبلدان التي يهاجرون إليها، ما يسهم في توسيع نطاق سوق العمل المحلية. ويقول الدكتور ديريك بيل أستاذ الاقتصاد الأوروبي في جامعة ليدز، "إن ارتفاع مستوى التعليم في بلدان أوروبا الشرقية مثل رومانيا وبلغاريا وبولندا والمجر، مثل عاملا مهما في تغيير القدرة والكفاءة الاقتصادية للمهاجرين الشرعيين، ومن ثم زيادة مساهمتهم الاقتصادية في البلدان التي يهاجرون إليها، وهو الأمر غير المتوافر لمعظم المهاجرين من إفريقيا، حيث ينخفض مستوى التعليم، ومن ثم فإن طبيعة الأعمال التي يقوم بها المهاجر الشرعي ونظيره غير الشرعي مختلفة، ومقدار مساهمتهما في الناتج المحلي الإجمالي مختلفة أيضا بشكل كبير". إلا أن وجهة نظر بعض الاقتصاديين، بأن الهجرة الشرعية بين بلدان الاتحاد الأوروبي، تمثل عاملاً إيجابياً للاقتصاد الوطني للبلدان المهاجر إليها، تلقى معارضة من اقتصاديين آخرين يعتبرون أن تكلفة تنقل العمالة والهجرة الشرعية تلقي بظلال قاتمة على الاقتصاد، مطالبين بوقف الهجرة الشرعية والحد منها لأدنى مستوى ممكن. ويشكك الدكتور جيم والكر أحد أبرز الوجوه الاقتصادية المعارضة لسياسات الهجرة الشرعية بين بلدان الاتحاد الأوروبي، في الأرقام التي تكشف عن مساهمة إيجابية للمهاجرين الشرعيين في الاقتصاد الأوروبي، ويعتبر أن أغلب الدراسات في هذا المجال تتجاهل التكلفة الاجتماعية للمهاجر، وتحصر مساهمته في الإضافة الاقتصادية بمفهومها الضيق. ويقول والكر لـ "الاقتصادية"، "إن الدراسة التي يعتمد عليها من يدافع عن قدوم مهاجرين شرعيين من أوروبا الشرقية إلى بريطانيا، بدعوى أنهم أضافوا خلال عقد من الزمن نحو خمسة مليارات استرليني للاقتصاد الوطني، محل جدل ولم تلق قبولاً من كافة المعنيين بهذه القضية"، وقد أعد البروفيسور كرستيان ديستمان من جامعة لندن دراسة أخرى تؤكد عدم دقة تلك الأرقام، وأن المهاجرين الشرعيين مثلوا تكلفة مالية وعبئا على الاقتصاد البريطاني. وأضاف والكر أن "هذا ليس المهم، ففي اعتقادي أن أغلب الدراسات لا تأخذ في الحسبان التكلفة الاجتماعية للمهاجر - وهي نفقات يمكن في بعض الأحيان ترجمتها إلى أرقام ولكن ليس دائما – فمثلا لا يؤخذ في الحسبان عدم معرفة هؤلاء المهاجرين لغة البلدان التي يهاجرون إليها، وتكلفة سنوات التأقلم والاستيعاب التي تقدر بين ثماني إلى عشر سنوات، كما أن هناك مبالغة في تقدير مدى التحسن في المستوى التعليمي في بلدان أوروبا الشرقية، أو كفاءة ومهارة العمالة القادمة من تلك البلدان، ومن ثم فإن هناك تكلفة اقتصادية تنجم عن إعادة التدريب والتأهيل الذي تقوم به السلطات أو القطاع الخاص للمهاجرين". لكن الواقع يشير إلى أن التيار المعادي للهجرة الشرعية داخل بلدان الاتحاد الأوروبي، يبني موقفه ليس على أسس اقتصادية، بقدر ما أنه يجدد في المبررات الثقافية العنصر الأساسي لأفكاره، فعلى سبيل المثال يرفض حزب الاستقلال البريطاني المهاجرين الشرعيين القدمين من أوروبا الشرقية ويطالب باستبدالهم بمهاجرين من الهند وأستراليا بدعوى أنهم أكثر انسجاما ثقافيا مع المجتمع البريطاني، مقارنة بالمهاجرين القادمين من بلدان مثل بلغاريا ورومانيا وبولندا. ومع هذا، فإن تشجيع الهجرة بين بلدان الاتحاد الأوروبي، خاصة من الأطراف إلى المركز يجد دعما قويا من ألمانيا أكبر الاقتصادات الأوروبية وأقواها، فقد أعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن بلادها في حاجة خلال العقد المقبل إلى مئات آلاف المهاجرين كل عام، وذلك لتعويض النقص في العمالة الماهرة التي تعانيها ألمانيا. فالاقتصاد الألماني وعديد من الاقتصادات الأوروبية المتقدمة، تواجه مشكلة جراء زيادة أعداد المواطنين الذين تجاوزوا الـ 65 عاما، وقد بلغت النسبة في بعض الاقتصادات الأوروبية المركزية ومنها ألمانيا (نحو خمس السكان)، إضافة إلى انخفاض معدل المواليد، وهذا يؤدي إلى توقع انخفاض اليد العاملة الألمانية بنحو سبعة ملايين شخص في عام 2025، ما يعني أنه لا توجد من وسيلة أمام المانيا التي تعد القاطرة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، غير القبول بمزيد من المهاجرين الشرعيين من بلدان أوروبا الشرقية المنضمة حديثا لعضوية التكتل الأوروبي، بل إن الحكومة الألمانية تعمل حاليا على تسهيل إجراءات الهجرة لجذب عمالة ماهرة من بلدان خارج الاتحاد الأوروبي. ويكشف الموقف الألماني وهو على النقيض التام من موقف المملكة المتحدة ثاني أقوى الاقتصادات الأوروبية، أن الاتحاد الأوروبي لا يمتلك سياسية حقيقية موحدة بشأن الهجرة بين بلدانه، نظرا لتباين الاحتياجات الاقتصادية بين دول الاتحاد، بشأن مدى الحاجة للعمالة الأجنبية، وأن كل دولة من الدول المركزية مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا، وإن أقرت في الاجتماعات الرسمية بتبني "السياسية المعلنة للاتحاد الأوروبي" بشأن الهجرة الشرعية، فإنها تتبنى واقعيا سياسة خاصة بها تحقق مصالحها بغض النظر عن الموقف المعلن للاتحاد. الدكتور جون كوتر المدير التنفيذي في معهد دراسات الهجرة، يعتبر أنه من السهل على دول الاتحاد الأوروبي أن يكون لهم موقف واحد وموحد من قضايا الهجرة غير الشرعية، إذ إن الانعكاسات الاقتصادية الناجمة عن الهجرة غير الشرعية سلبية بشكل عام، سواء من خلال تدني المستوى التعليمي والخبرات التي تمتلكها الغالبية العظمى من المهاجرين غير الشرعيين، أو باعتبارهم عبئا ماليا على الميزانية العامة للدولة، سواء من حيث الخدمات الصحية أو قضايا السكن، إضافة للتكلفة الأمنية الناجمة عن هذه الظاهرة، مشيراً إلى أن دولة قوية اقتصاديا مثل إيطاليا طالبت بمساعدات مالية من الاتحاد الأوروبي للتعامل مع الهجرة غير الشرعية. أما بالنسبة للهجرة الشرعية بين بلدان الاتحاد فالأمر يختلف، ونظرا لتباين درجات النمو بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، فإن الموقف من قضية الهجرة الشرعية يختلف فيما بينها. وأضاف كوتر أن "الادعاء بأن الهجرة الشرعية تؤثر سلبا وتزيد معدلات البطالة في البلد المستقبل، غير دقيق أو مبالغ فيه، والحد من الهجرة الشرعية يتطلب خطة استثمارية تراوح بين 400- 500 مليار يورو في بلدان أوروبا الشرقية للنهوض الاقتصادي، وهذا سيساعد على خفض معدلات تدفق العمال إلى الاقتصادات الأكثر تطورا في الاتحاد.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من أخبار اقتصادية