«عاصفة الحزم» .. فجر عربي جديد

«عاصفة الحزم» .. فجر عربي جديد

صباح يوم السادس والعشرين من مارس لم يكن كأي صباح في المملكة العربية السعودية، الملايين من المواطنين السعوديين الذين توجهوا إلى أعمالهم مع تباشير فجر ذلك اليوم فوجئوا بأخبار "عاصفة الحزم" تحتل كل شاشات الإعلام ومحطات الإذاعة المحلية تبث الأغاني الوطنية. و بالنسبة للمواطنين السعوديين الذين تبلغ أعمارهم أقل من 25 عاما الذين تشكل نسبتهم نحو 50 في المائة من إجمالي عدد السكان فإنها المرة الأولى التي يشهدون فيها حرباً أو عملية عسكرية سعودية بهذا الحجم. هو يوم فارق في حياة السعوديين، وهو يوم فارق أيضاً في حياة مئات الملايين من العرب الذين تابعوا بحسرة على مر الأعوام الخمسة الماضية، خريطة العالم العربي وهي تتفكك جراء التدخلات الإيرانية في المشرق العربي تارة وجراء إرهاب التنظيمات والجماعات الدينية تارة أخرى. عاصفة الحزم هي العملية العسكرية العربية الأولى بهذا الحجم وهذا القدر من التنسيق المشترك التي تهدف لوقف تفكك خريطة العالم العربي وانهيار الدولة العربية.
وزير الخارجية الأمريكي الأسبق والسياسي المخضرم هنري كسنجر في كتابه الأخير "النظام العالمي" وصف السياسة الخارجية السعودية بأنها تميزت دائما بالحيطة ومعالجة المشاكل من على بعد وأنها استطاعت أن تتجاوز الكثير من الأزمات والتهديدات الإقليمية بهذه الطريقة. لكن الوزير المخضرم أخطأ في تقديراته عندما افترض في نهاية الفصل المخصص عن المملكة في كتابه بأنها قد تلجأ إلى الاستعانة بقوى عظمى أخرى لحماية المنطقة حال قررت أمريكا الانسحاب السياسي من الشرق الأوسط أو في حال توصلها إلى صفقة نووية منحازة إيرانياً. في واقع الأمر، كان القرار السعودي الحاسم مستقلاً في عام 2011 عندما تدخلت قوات درع الجزيرة في البحرين لإنقاذ هذا البلد المسالم من إيران، وكان مستقلاً وشجاعاً عندما وقف بكل ثقله السياسي مع الشعب والجيش المصري في مواجهة الضغوطات الدولية عقب سقوط نظام الإخوان المسلمين عام 2013. ثم تجلى هذا القرار في قمة الاستقلالية والشجاعة عندما أعطى القائد الأعلى لكافة القوات العسكرية السعودية الملك سلمان إشارة انطلاق عملية عاصفة الحزم.
أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد "نواف عبيد" أشار في مقالته في صحيفة الواشنطن بوست في السادس والعشرين من مارس إلى أن سلبية الإدارة الأمريكية في مواجهة مشاكل المنطقة وضعت المملكة أمام خيار وحيد وهو تولي قيادة المنطقة بشكل أكثر قوة. هذه القيادة لا تستمد قوتها من القاعدة الدينية للمملكة فحسب بل من قوتها العسكرية التي جرى تطويرها وتحديثها في الأعوام الماضية بحيث تكون قادرة على حماية المملكة من أخطار متزامنة على جبهتين مختلفتين. لكن عاصفة الحزم ليست مجرد عملية عسكرية فحسب، بل الجزء العسكري منها هو مجرد نتيجة لجهد ونجاح عملية سياسية كبيرة قادتها المملكة وجمعت من خلالها 10 دول عربية وإسلامية في موقف سياسي موحد وقوة عسكرية مشتركة. هو موقف لم يتكرر منذ عملية تحرير الكويت وهو موقف يشكل لحظة فارقة في تاريخ العرب الحديث. إذ جرت العادة أن تعقد القمم العربية فتخرج منها بيانات الشجب والاستنكار، لكن هذه المرة سبقت الأفعال القمة وحل البيان العسكري محل بيانات الشجب والاستنكار.
كانت القيادة السعودية تحت راية المغفور له الملك عبدالله سباقة في تنبيه العالم إلى خطر التهاون جراء ما يحصل في العالم العربي من تدخلات تهدف إلى تفكيكه وتدميره. وكانت تلك البداية لبناء تحالف دولي بمشاركة خليجية وعربية فاعلة لوقف تمدد الجماعات الدينية المتطرفة في سورية والعراق. وعلى الطريق نفسه سارت القيادة السعودية الجديدة تحت راية الملك سلمان عندما أوضحت وبكل حزم على لسان وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل أنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما يحصل في اليمن. وسبق ذلك جهد سياسي كبير توافدت من خلاله قيادات العالم إلى الرياض للقاء القيادة السعودية الجديدة. لم تكن المملكة بحاجة إلى تقديم أي تنازلات سياسية لبناء تحالف "عاصفة الحزم" كما كان البعض من الموهومين يمنون أنفسهم خلال الفترة التي أعقبت رحيل الملك عبدالله. ليست المملكة بزعامتها السياسية والروحية للعالمين العربي والإسلامي من يحتاج إلى مواءمات وتنازلات لكي تواجه الأخطار الإقليمية. فالسياسة الخارجية السعودية ظلت الرقم الثابت في محيط من التحولات والتغييرات التي عصفت بالمنطقة خلال الأعوام الخمسة الماضية والرؤية السعودية تجاه صعود الميليشيات وتضعضع الدولة في الشرق الأوسط منذ انقلاب حزب الله اللبناني على الدولة اللبنانية في صيف 2006 ثبت أنها الرؤية الصحيحة.
ربما سيتعين الانتظار بعض الوقت قبل تحقيق الأهداف النهائية لعملية عاصفة الحزم. لكن، وبعيداً عن النجاحات العسكرية التي تحققت مع الضربات الأولى فإن العملية بحد ذاتها دشنت عصرا جديدا للمنطقة، عصر يتحكم فيه العرب في مصيرهم وينهون مرحلة مؤسفة غرقت فيها دول في الرمال المتحركة وكادت أن تغرق دول أخرى.

الأكثر قراءة