الحزين .. صانع الفرح

في منزل صغير من طابق واحد، يعلوه سطح فسيح تستخدمه العائلة لجلسات ليالي الصيف، أثمرت بذور جهاد موظف مؤسسة المياه السورية، وهناء موظفة المؤسسة الاستهلاكية الوطنية عن أربع فتيات وثلاثة صبيان، يربطهم حب وتعاضد كان حديث كل الجيران في حارة المتفوقين التي تتوسط مدينة دير الزور.
دوما كان دستور هناء وزوجها جهاد الذي لا يكسر تحت أي ظرف، الدراسة أولا ثم كل شيء، فالجو العام في المنطقة ينبض بالعلم، والكل في سباق مثير نحوه، ومن هنا كان اختيار اسم المتفوقين للمدرسة الإعدادية في الحي تعبيرا حقيقيا عن كل خريجيها الذين شقوا طريقهم في المجتمع السوري المليء بالنوابغ.
وحده ابن التاسعة، أولوياته مختلفة عن البقية، شغوف بشيء آخر، يحب كرة القدم، يعشقها، يتنفسها، هي كل شيء، ومن بعدها يأتي أي شيء. كل أقرانه يعودون من المدرسة إلى منازلهم، هو كذلك، لكن ليس إلى منزل الأسرة بل يتجه مباشرة إلى عشيقته، باحة أمام مدرسة المتفوقين، يقف أمامها، يفكر ويتحدث مع نفسه: اليوم سأسجل هدفا من هنا، وآخر من هناك، يبتسم ثم يهرول لبيت هناء وجهاد ليلقي بكل أوراق الدراسة وزي الجيش المدرسي ويرتدي ثيابا أخرى استعدادا لموعده الغرامي.
.. هناك تعرف على سعود الطاهه، أول مدرب احتضنه وغذاه أكثر بحب كرة القدم ونقله إلى صغار الفتوة نادي المدينة ذاتها، وفيه عرف محمد رسلي عرابة الذي لا ينساه أبدا. مضى الصغير عمر خلف المدورة يطاردها صباح مساء ونسي كل شيء، نسي دستور هناء وجهاد، فكانت الكارثة حين رسب في السنة الدراسية التاسعة، ثارت ثائرة جهاد وأصدر قرارا رئاسيا عاجلا بمنع المتمرد الصغير على الدستور من الخروج، واقتصاره إلى ومن المدرسة، كانت القرارات فعلا وقولا. يعود جهاد من عمله مجهدا، يمر على غرفة عمر، يتأكد من وجوده، يذهب لقيلولته بعد إيصاد كل أبواب المنزل بالأقفال، ودس المفاتيح تحت وسادته أمام ممر لا يسمح لأحد بالوصول إلى الباب دون تخطي جسده الملقى بعد يوم حافل بالتعب ومثقل بهموم الحياة.
باءت كل محاولات الصغير عمر في سرقة المفاتيح بالفشل، هداه عشقه إلى طريقة شيطانية، صعد سطح المنزل، تسلق الجدار، وتطاول إلى عمود الكهرباء واحتضنه نزولا إلى الممر المؤدي لساحة المتفوقين، رأى الكرة، طاردها سجل أربعة أهداف يومها، نسي كل شيء ينتظره، بل لم يفكر فيه، كل العقوبات المنتظرة لا توازي شيئا أمام ما يشعر به الآن، يطاردها كفتى مغرم يعيش لحظة اللقاء الأول مع آسرة فؤاده. وحتى ووالده يستقبله أمام باب المنزل، وشرر الغضب يتطاير من عينيه، لم يجب عمر إلا بكلمة: “أحب كرة القدم يا أبي، هي كل حياتي”. كأن الغضب الممتلئ في جسد جهاد لحظتها، سلك كهرباء تم فصله، احتضن ابنه وقال: ربي يوفقك يا ولدي، ستكون متفوقا أيضا خرج من باحة المتفوقين.
عشق عمر السومة لكرة القدم لا مثيل له، قصة تروى فتمتع وتبهر، حين كان يتحدث إلى خطيبته التي يعقد قرانه عليها الخميس المقبل، قال لها في لحظة صدق متهورة: “أحبك أكثر من أي شيء، إلا كرة القدم”، استشاطت الفتاة العاشقة غضبا، ودبت الغيرة في أوصالها، واحتاج العاشق إلى جمل كاذبة كثيرة لتعديل ما يمكن تعديله.
رغم أهدافه التي تصنع الفرح على وجوه الناس، يقرأ المتعمق في وجه السومة مسحة حزن مستوطنة حتى وهو يخفيها بابتسامات عابرة، قلت له: وما الحزن يا عمر؟ قال والزفرات حارقة: ليلة تدمير ساحة المتفوقين ومدرستها في الحرب السورية، استقبلت على هاتفي صورا من أصدقائي هناك، لم أنبس بكلمة، في الفجر شعرت بأن أحمال الدنيا كلها أُلقيت فوق صدري، خرجت من منزلي في الكويت، وأمام البحر على صخور صامتة تهامرت دموعي.. بكيت بحرقة كطفل مشرد، بكيت، ومن يومها ووسم الذكرى المُرّة يرسم ملامحي.
قبل مباراة النصر الفاصلة، صلى عمر السومة ركعتين، استعاد تفاصيل باحة المتفوقين المدمرة على الأرض المكتملة في ذاكرته، قال له جروس: بماذا تشعر؟ أجاب سنفوز. بين الحصتين في الممر المؤدي للملعب قال له جروس: اذهب إلى القائم الأخير في الركنيات إنهم يغفلون. ذهب هناك، وأرسل رأسيته التي رسمت خريطة الطريق إلى الحلم الكبير، وطعنت النصر في خاصرته.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي