كيف الخروج من الممارسات الخاطئة؟

أنهي في هذا المقال ما تم استعراضه في المقالين السابقين، اللذين تركزا على أهم واجبات الوزراء وكبار المسؤولين في الأجهزة الحكومية، والضرورة القصوى لأن يخضع أداء تلك المهام والمسؤوليات لرؤية استراتيجية شاملة، ومن المهم جدا لفهم ما سيأتي في هذا المقال الرجوع إلى ما تضمنه المقالان السابقان، لتكتمل الصورة في ذهن القارئ الكريم، آملا أن تجد هذه الأفكار وغيرها من الطروحات التي يتفضل الكثير من المختصين والمهتمين بطرحها من وقت لآخر آذانا صاغية.
سيتركز الحديث هنا حول العديد من الممارسات الخاطئة في حقيقتها، التي تسببت في تعطيل وتأخير الكثير من المهام والمسؤوليات الموكلة للمسؤولين، بل إن بعضها أخذ مسارا منحرفا بعيدا كل البعد عن النقطة التي لم يكن من الصحيح أن يحدث عندها ذلك الانحراف، ثم في خطوة لاحقة؛ استغرق الكثير من الجهود والوقت والأموال لأجل التكيف مع تلك الأخطاء، لا لأجل معالجتها من جذورها! من هذه الممارسات المعطلة ما سيأتي ذكره الآن.
أولا: سياسة الباب المفتوح، اعتدنا الإشادة بالوزير أو المسؤول الذي ينتهج في تعامله مع المراجعين تلك السياسة، ووصلنا في المرحلة الراهنة إلى تبادل صوره عبر مختلف وسائل الاتصال الحديثة، وبالطبع فهذا يعني استنكار أي تصرف معاكس لهذه السياسة! وأقصد هنا من يوصد على نفسه باب مكتبه، فلا يستطيع أي مراجعٍ الالتقاء به أو الدخول عليه وعرض المشكلة الخاصة بذلك المراجع.
لقد فات أغلب الناس أن هذه السياسة هي الاستثناء وليست القاعدة، فالاستثناء أن يتسع وقت وجدول أعمال الوزير أو المسؤول لأي مراجع تضطره الظروف للقدوم إليه! أما القاعدة فهي ألا يضطر هذا المراجع أو غيره إلى القدوم والوقوف على باب هذا الوزير أو غيره، والقاعدة أن آليات عمل الوزارة أو ذلك الجهاز الحكومي تسير وفق الضوابط والسياسات الموضوعة، ومن ثم فاحتمالات أن تتم تلبية أغلب المتعاملين مع تلك الوزارة يجب أن تكون الأعلى، مقابل أن تنخفض إلى أدنى درجة ممكنة احتمالات لجوء المراجع أو خلافه للقدوم إلى مكتب الوزير أو المسؤول. وعليه؛ فإن أهم مؤشر لنجاح تلك السياسات أن ترى المراجعين والمتزاحمين عند باب مكتب أي مسؤول في أدنى درجاته! هذه هي القاعدة الغائبة، ولا يعني إطلاقا أي نجاحٍ يذكر أن الوزير يخرج متواضعا من مكتبه لمقابلة المراجعين، أو أن يخصص وقتا طويلا لمقابلتهم، كل هذا لا يعني إلا أن أداء جهازه الذي يتولى قيادته يعاني القصور والضعف. دع عنك تكلفة الوقت المهدر الذي يدفعه المراجع والمسؤول وكل من يرتبط بتلك المراجعات وغيرها، إضافة إلى تكلفة الوقت البديل الذي كان سيتم استغلاله في شأن آخر أكثر فائدة للجميع، عوضا عن قضائه في معالجة ما كان مفترضا ألا يحدث من الأساس.
ثانيا: الجولات التفتيشية المفاجئة وغير المفاجئة، وما ينتج عنها من اكتشافات غير مسبوقة من الأخطاء والانحرافات على يد الوزير أو المسؤول المفتش! هل لو كان أداء الجهاز الحكومي يسير وفق النظام المنصوص عليه، هل كانت ستكتشف تلك الأخطاء؟ وهل كانت تلك الأخطاء ستظل قائمة إلى أن يفاجئ الوزير الجميع بزيارته؟ ولماذا في الأصل حدثت تلك الأخطاء؟ ولماذا أيضا لم تتمكن آليات عمل الجهاز الحكومي من اكتشافها ومعالجتها قبل تلك الزيارة (المفاجئة)؟! لا شك أننا جميعا نتذكر الكثير من صور ومناسبات تلك الزيارات طوال السنوات الماضية، وأننا نكتشف اليوم أن فرحتنا بها وبما نتجت عنه لم تكن على الإطلاق في موقعها الصحيح!
ثالثا: الاعتقاد أن تبديل المسؤول وتعيين آخر مكانه، سينتج عنه تحول وتطور غير مسبوق! وبأسلوب الفكرة السابقة نفسه؛ أكرر السؤال: هل لو كان الجهاز الحكومي يسير ويعمل وفق المهام والمسؤوليات التي أنيطت به، فهل تجد هذه الفكرة مجالا للحياة؟ إن ما يميز مسؤولا عن مسؤول آخر، ليس في هذا المقام، ويجب ألا يكون كذلك كونه لا يعني إلا دورانا في دائرة الفشل قبل النجاح والعمل المبادر! إنما التمييز يكون في اختلاف الرؤية الثاقبة، وكيف أن نجاحا تحقق على يد هذا الوزير كان أفضل من نجاح من سبقه، سواء عن طريق توفير التكلفة والجهد، أو عن طريق ابتكار أفكار وأساليب أكثر حداثة تصب في مصلحة التسريع بإجراءات العمل والإنتاج، والعمل الدؤوب على رفع كفاءة الأداء والإنتاج! هذا هو الفارق الذي يجب أن نبحث عنه، لا أن تستسلم رؤانا واهتمامنا بتلك الزوايا الضيقة المغلقة الأفق والرؤية.
أصدقكم القول؛ يوجد الكثير من الممارسات والعادات الإدارية التي أكل عليها الدهر وشرب، ومع الأسف أنها غائرة في جسد منظورنا الإداري والتطويري أكثر مما نتخيل، ونحتاج إلى كثير من الوقت والجهود والأموال للتكيف الخاطئ معها، الذي لا يزال ساري المفعول حتى كتابة هذا المقال، ما يقتضي من الأجهزة المعنية، برفع كفاءة الأداء ومراقبته، أن تعمل فورا على القضاء عليه دون تأخير ودون مماطلة، وأؤكد هنا أن لا مجال لتحقق تلك الغاية الطموحة إلا بتبني مفهوم جديد مختلف تماما عما هو قائم أمامنا من مفاهيم إدارية وتنموية تقليدية، فلا بد من تحقيق تلك الرؤية الاستراتيجية الشاملة، وتحقيق ما سينتج عنها من آليات وخطط وبرامج تفصيلية، عدا ذلك أقولها بكل أسف؛ إننا سنمضي عقودا زمنية أطول وأكثر هدرا في المال والجهد والوقت. والله ولي التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي