المعرفات الوهمية والحرب الرقمية ومواطن 2015

«فلتذهب حكومة بلادي إلى الجحيم، ذلك ما قالته بوضوح، ناشطة شابة في مجال الديمقراطية والحريات، من روسيا البيضاء، عندما سألتُها عما إن كانت قلقة إذا ما واجهت مساءلة من حكومة دولتها إن هي عادت إليها بعد حضورها للبرنامج التدريبي الرقميTechCamp الذي أقمناه في ليتوانيا .. إني معجبة بهذا النوع من الفتيات»!
بهذه الجملة المثيرة لكثير من علامات الاستفهام، استهلت هيلاري كلينتون، الوزيرة السابقة للخارجية الأمريكية في الفترة ما بين (2009-2013)، استهلت الفصل الرابع من الباب السادس والأخير في كتابها الشهير المثير للجدل "خيارات صعبة" الصادر أخيراً في النصف الأخير من هذا العام، 2014، الحافل بكثير من الأحداث العنيفة، والتقلبات المتتابعة، في المنطقة والعالم، الذي نودعه مساء هذا اليوم بخيره وشره.
كتاب هيلاري الأخير هذا، والواقع في أكثر من 600 صفحة من القطع المتوسط، والمتضمن لستة أبواب، أو "أجزاء" كما سمتها كلينتون، سبق أن تطرقت لبعض مما جاء فيه، بُعيد صدوره، عبر مقالات سابقة في هذه الصحيفة. حيث ناقشت بإسهاب حقيقة ما أثير حول الكتاب بشأن "داعش"، ونشأتها، والاتفاق المزعوم بينها وبين الولايات المتحدة، وأوضحت حينها أن جميع ما ذكر حول الموضوع لا يعدو كونه محض كذب وشائعات، جرى ترويجها من بعض الأجهزة الدعائية المغرضة، وطارت بها الركبان، وأنه لا وجود للنص المفترى به على كلينتون في كتابها محل الجدل، وقد تتبعت حينها مصدر هذه الشائعة عبر وسائل الإعلام، وبينته في تلك المقالات سابقة الذكر. وكنت قد ذكرت أنه لا يوجد في الكتاب ما يستدعي كل ذلك الصخب الذي واكبه، وأنه لا يحوي جديداً، أو ذا أهمية، باستثناء فصل واحد في الباب الأخير، كان لافتاً جداً، ويسترعي الانتباه؛ إنه الفصل المعني بـ "الدبلوماسية الرقمية"، كما سمتها كلينتون. وكنت قد وعدت بتناول هذا الفصل في مقبل الأيام، وها أنا أعود إليه هنا .. فما تلك "الدبلوماسية الرقمية" التي قصدتها كلينتون؟
ستفاجأ ربما - عزيزي القارئ – كما فوجئت أنا، ليس لأننا – أنت وأنا- نجهل الاستخدامات السيئة لشبكة الإنترنت، التي قد تستخدمها دولة ضد أخرى، في حروب ما يسمى "المعلومات"، أو "الحروب الدعائية"، أو "الحروب الرقمية"، بل لأن هيلاري أثنت على هذا النوع من الاستخدامات، بشكل غير مباشر، تحت ذريعة دعم "الحريات، وحقوق الإنسان"، وأشارت إلى هذه "الحروب الرقمية" بوصفها لها بـ "الدبلوماسية" حيث عنونت هذا الفصل بـ: "دبلوماسية رقمية في عالم شبكي" أو Digital Diplomacy in a Networked World!!
لا تنسوا أبداً هذين المصطلحين بالغي الأهمية: "الرقمية" و"الشبكية"، لما لهما من أهمية بالغة في مجالات الأمن الوطني، والحفاظ على مصالحنا العليا، وسأعود إليهما بشيء من الإسهاب في سانحة لاحقة أخرى بمشيئة الله. أما الآن، فاستحضروا معي ما أعلنه سابقاً سعادة المتحدث الرسمي لوزارة الداخلية أن الجهات المعنية في الوزارة، كانت قد رصدت عشرات الآلاف من المعرفات المتنكرة في وسائل التواصل الاجتماعي عبر شبكة الإنترنت، تدعي أنها لمواطنين سعوديين من داخل المملكة، تسعى إلى إثارة الفتن والقلاقل في الداخل السعودي، فيما هي في الحقيقة معرفات مشبوهة تدار من خارج المملكة كما ثبت لجهات الاختصاص. ومن جانب آخر، جميعنا يذكر ذلك الملتقى الشبابي المشبوه المسمى "ملتقى النهضة"، الذي استقطب عشرات الشبان والفتيات من دول الخليج العربي، خاصة السعودية، ليتدرب هؤلاء الشباب "النشطاء" بزعمهم، على ما سموه "تقنيات التغيير" و"آلياته" وليستخدموها، ويمارسوا نشاطاتهم من خلالها بما يرفع من كفاءة أدائهم وعملهم "كنشطاء اجتماعيين" في هذا المجال حين يعودوا إلى بلدانهم، كان ذلك في عام 2011م، بداية أحداث ما أطلقت عليه حينها وسائل إعلام أجنبية"الربيع العربي"، فتُعُورف عليه على نطاق واسع بهذا المسمى، إلى أن تبين فيما بعد أنه لم يكن ربيعاً إطلاقا، بل حماما من الدماء، والأشلاء، والدمار، والخوف، والإرهاب والضياع. إلا أن ما لفت نظري وأنا أقرأ هذا الفصل من كتاب هيلاري، أن المخيم التدريبي الذي أقامته الولايات المتحدة في ليتوانيا، لتدريب من وصفتهم كلينتون بـ "النشطاء الاجتماعيين الشبان" الذي ضم بحسبها "أكثر من ثمانين شابا وشابة من أكثر من 18 دولة، تجمعوا في غرفة صغيرة ليتلقوا التدريب" كان أيضاً في العام ذاته، 2011م! فعلى ماذا جرى تدريبهم يا ترى؟ وما علاقة ذلك بما حدث في ملتقى "النهضة"؟ وهل لنا أن نخرج من هذين البرنامجين التدريبيين باستنتاجات مهمة؟ وما علاقة ذلك بـ "الدبلوماسية الرقمية" بحسب مفهوم كلينتون؟
تخبرنا كلينتون في كتابها عن ماهية هذا البرنامج التدريبي الرقمي المسمى "TechCamp" الذي استقطب نشطاء شبابا داخل مجتمعاتهم ودولهم، بأنه برنامج تدريبي مكثف، وأنقل هنا حرفياً: "نظمته الخارجية الأمريكية للدول المجاورة لليتوانيا في جون 2011، لقد استخدمنا هذا الملتقى لمساعدة المجموعات الاجتماعية المدنية الناشطة من دول المنطقة ليتعلموا كيفية استخدام التقنية لتطوير أعمالهم في مجالاتهم، وليتجاوزوا الرقابة والأساليب القمعية"، ولنفهم أكثر ما تعنيه كلينتون بقولها هذا، فلنربط بينه، وبين ما ذكرته حول تلك الفتاة البيلاروسية المشاركة في الملتقى ذاته، التي أعجبت بها وزيرة الخارجية في حينه، تقول كلينتون: "من بين مجموعة الدول التي انفصلت عن الاتحاد السوفياتي القديم، فإن بيلاروسيا تعد واحدة من أكثرها احتواء على سلطة قمعية، ولكن هذه المرأة الشابة لم تكن خائفة كما ذكرت لي، لقد جاءت إلى ليتوانيا لتتعلم مهارات جديدة تساعدها لتظل متخفية على بعد خطوة واحدة من الشرطة السرية، وأجهزة الاستشعار الحكومية، فتقف عاجزة عن كشفها، أنا أحب نموذج هذه الفتاة"!. لكن يا ترى .. ما هذه المهارات التي ستساعدها في ممارسة أنشطتها بشكل أكثر كفاءة، وتظل متخفية، تعجز عن رصدها أجهزة الأمن في وطنها؟!
كلينتون ذاتها تجيب في الكتاب، فتقول: "إن الفريق الذي جرى انتدابه من وزارة الخارجية (الأمريكية) إلى ليتوانيا، جاء ليشرح للنشطاء، ويدربهم على كيفية حماية خصوصيته، وعدم الكشف عن هويتهم على الإنترنت، وإحباط وتجاوز ما تحجبه حكومات بلادهم على الإنترنت، واختراق الجدر النارية، ونحن أيضا أحضرنا مندوبين ممثلين عن تويتر، وفيسبوك، ومايكروسوفت، وسكايب"!.
وإذا ما ربطنا بين ما تقوم به وزارة الخارجية الأمريكية – بكل فخر- وبين ما حدث في ملتقى النهضة، وتلك المعرفات المتنكرة التي اكتشفتها أجهزتنا الأمنية، وثبت لها أنه تدار من الخارج .. إذا ما ربطنا ذلك كله، فسنخلص إلى أن المواطن في عام 2015، أضحى بالفعل، وأكثر من السابق، هو رجل الأمن الأول، الذي يعول عليه، وعلى وعيه الراقي، وحسه الأمني العالي، الشيء الكثير، فنحن المواطنين المستهدفون من كل هذه التحركات المشبوهة، ونحن من وقف، وسيقف – بعون الله وتوفيقه - في وجه كل من تسول له نفسه العبث بأمننا، واستقرارنا، ونهضتنا. ألقاكم في 2015 بمشيئة الله، وكل عام وأنتم بخير.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي