الصورة والثقة والمصداقية .. قلب الدبلوماسية الشعبية

ذكرت الأسبوع الماضي أن كبير المحللين السياسيين في مشروع الأمن القومي الأمريكي، الباحث ماثيو ولين Matthew Wallin، توصل أخيرا وفريقه العامل معه، إلى نتائج مهمة جدا، مثلت، من وجهة نظري، قفزة نوعية في مجال العمل الدبلوماسي الشعبي، إنها عشر قواعد أساسية تدعم نجاح تطبيقات الدبلوماسية الشعبية (العامة) Public Diplomacy، متى ما جرى أخذها في الحسبان أثناء دورة حياة برامج وحملات الدبلوماسية الشعبية، المتمثلة في عمليات البحث والتخطيط والتنفيذ والتغذية المرتجعة. لقد توصل لها ماثيو وفريقه عبر سلسلة من دراسات الحالة، والتجارب على الممارسات والتطبيقات، للعمل الدبلوماسي الشعبي في دول متنوعة، حيث قاموا بتطوير هذه القائمة من أفضل تلك الممارسات. وقد خلص ولين في سلسلة دراساته تلك إلى نتيجة مؤداها ضرورة تنبيه صانعي القرار السياسي والممارسين للعمل الدبلوماسي الشعبي (الدبلوماسية العامة) بضرورة تكوين فهم أفضل للخطط، وما يمكن، وما لا يمكن تحقيقه، في مراحل التخطيط لحملات الدبلوماسية الشعبية، وكنت قد سردت في المقالة السابقة أربعا من هذه القواعد: الفهم الجيد والواضح للأهداف السياسية، وضع هدف محدد للعمليات الاتصالية يمكن قياس النجاح فيه أو الفشل بدقة، معرفة وتحديد الجمهور المستهدف، والإنصات، وأستكمل في هذه المقالة ثلاث قواعد أخرى بالتسلسل ذاته وبتصرف كما يلي:
5 - إنشاء الرواية السردية:
ويقصد بذلك تلك الرواية أو القصة أو "الحدوتة" أو الصورة التي تقبع في العقل الباطن، كخلفية للتواصل، ولتحركات السياسة، إنها تلك الأفكار التي يجب أن تظهر على السطح لدى الجمهور المستهدف عندما يفكر فيك وفي وطنك، تماما كما هو في شعار "الولايات المتحدة الأمريكية أرض الأحلام Dream Land" مثلا، وهو ما ينطبق على عدد من المحاولات الجادة من المملكة العربية السعودية كما في معرض "المملكة بين الأمس واليوم" المتنقل وغيره، كمهرجان الجنادرية الوطني للتراث والثقافة، الذي أضحى بحق أيقونة ثقافية وتراثية دولية، هو الأبرز لعرض الثقافة العربية الأصيلة في وقتنا الحاضر، حيث يمتزج فيه عبق تاريخنا العربي السعودي المجيد بحاضرنا الزاهر، ويحكي ملحمة الوطن، ورواية التوحيد لمملكتنا العظيمة الشماء، مملكة البطولة والإباء، مهد العروبة، ومنبع الإسلام، وأرض الحضارات العربية الأصيلة، وليشمل ضمن جنباته نشاطات تراثية وفنية وثقافية وعلمية، وليشارك فيه وفود من مختلف الأقطار العربية والدولية، وليطرح على هامش المهرجان الفريد نقاشات لموضوعات ذات اهتمام دولي، اقتصادية، وثقافية، وسياسية. وكما هو الحال أيضا في إعادة إحياء أحد أهم أسواق أجدادنا، وأشهرها على الإطلاق، سوق عكاظ، الذي كانت قبائلنا العربية الأصيلة تجتمع فيه من كل أنحاء بلادنا المترامية الأطراف، شهرا من كل سنة، يتناشدون فيه الشعر، معجزة العرب، ويفاخر بعضهم بعضا. ولم يكن هذا السوق مكانا ينشد فيه الشعر فحسب، بل كان أيضا محفلا موسميا اجتماعيا قبائليا له دوره السياسي والاجتماعي الكبير عند أسلافنا، ومنبرا إعلاميا يجتمع فيه شيوخ القبائل بعشائرهم، وتعقد فيه المواثيق وتنقض، كما كان مضمارا للفروسية والمبارزة، وسوقا تجاريا واسعا تقصده قوافل التجار، وهو ما نسعى كخلف لأسلافنا، لإعادة إحيائه ليحكي عن عظمة ماضينا التليد، وجذورنا الضاربة في أعماق الحضارة الإنسانية، وكذا الحال في المهرجانات الثقافية والتراثية في مختلف مناطق المملكة، التي يبرز على رأسها مهرجان أبها الصيفي، الذي يحكي جانبا من تاريخ الإنسان العربي السعودي، وليربط الماضي بالحاضر.
وقبل ذلك كله، وفوقه، وتاجه، إبراز قصة ربانية عظيمة، لهذا الإنسان الشهم الكريم على هذه الأرض المباركة، تروي المكانة الدينية المقدسة العظمى في تاريخ البشر، التي شرف بها الرب جل جلاله هذه البلاد وأهلها، حيث اختصنا سبحانه وتعالى بواسع فضله ومنته وحكمته، وشرفنا برعاية الحرمين الشريفين، وخدمة حجاج بيته الحرام، وبدعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام: "رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ".
هذا بخلاف عديد من القصص والروايات والبطولات الماضية والحاضرة التي تسلط الضوء على عظمة هذه البلاد وأهلها.
يقول ولين: "يجب عند إنشاء الرواية السردية، الأخذ بعين الاعتبار مدى ملاءمة هذه الرواية الأهداف، ومعتقدات الجمهور المتلقي وقيمه وتصوراته". إن اتخاذ القرار بشأن ماهية الرواية السردية المناسبة لتكون كخلفية للاتصال مع الجماهير المستهدفة هو من أبرز وأصعب خطوات العمل الدبلوماسي الشعبي الناجح، وهذا دون شك من أصعب المناطق التي يجب العمل عليها لدينا في المملكة، التي كثيرا ما جرى تشويه صورتنا هذه في ذهن عديد من الشعوب الأجنبية عبر وسائل الإعلام المختلفة، من أفلام، أو تقارير إخبارية، وخلافه، نظرا لما تشكله المملكة بمكانتها الإسلامية والعربية من عائق حقيقي صلد وكبير أمام تنفيذ السياسات والمطامع الأجنبية المعادية للأمتين العربية والإسلامية، ولمكانتها وسلطتها المعنوية في قلوب أكثر من ملياري مسلم، بل إن المملكة واجهت إساءات لصورتها من داخل عدد من المنظمات والمجموعات التي ترفع شعارات الانتماء للإسلام، بهدف إضفاء مصداقية على هذه الصورة المسيئة، ولزعزعة مكانتها في قلوب المسلمين، وهو ما يستدعي التعامل مع هذه الخطوة بحذر واهتمام كبيرين، وسعي حثيث، لاختيار الرواية المناسبة بعناية ومصداقية وواقعية، إذ إن واقعنا التاريخي في المملكة العربية السعودية زاخر بالروايات الإنسانية الجاذبة والجميلة، التي لم نحسن بعد إبرازها، والاستفادة منها، والعمل عليها، كما ينبغي في السياق ذاته، دراسة المفاهيم الموجودة مسبقا لدى الجمهور المستهدف تجاه المملكة، مع الأخذ بالاعتبار أن عملية التغيير في الصورة والمفاهيم ستستغرق وقتا طويلا وجهدا أكبر، مقارنة بعمليات التعزيز.
6 - الثقة والمصداقية:
وهي عنصر أساسي، خاصة في زمن الإنترنت، والثورة المعلوماتية، إذ أضحت مصادر المعلومات متعددة، وآنية، وفي متناول الجميع، فبوجود المعلومات على مدار الـ 24 ساعة، وانتشار الهواتف المتنقلة، وما تحمله من كاميرات، يجعل من الصعوبة بمكان تمرير معلومات غير صادقة، إن تقاليدنا العربية الأصيلة وأخلاقياتنا كمسلمين تدعونا للصدق، وببساطة، حتى يتم تصديقنا، يجب أن نكون صادقين، والعكس صحيح، فمتى ما عرفت بالكذب والتلفيق، وخيانة الأمانة، فإن ذلك يعني كارثة حتمية.
7 - متابعة مدى تحقيق الوعود والالتزامات السياسية:
سياسة غير قابلة للتنفيذ هي سياسة غير حكيمة، إن تلتزم بتقديم وعود سياسية محددة فإنه ينبغي لك الوفاء بها، وعليه فيجب عدم تقديم وعود وأهداف سياسية غير قابلة للتحقق، فذلك يضعف الثقة، ويرجع بنتائج سلبية عكسية، ولنا في خطاب الرئيس الأمريكي " باراك أوباما" للأمة العربية في جامعة القاهرة عام 2009، الذي تأملنا منه حينها خيرا، وما رأيناه ونراه فيما بعد على أرض الواقع من سياسات أمريكية أقل ما يقال عنها إنها سياسات مترددة، غامضة، ضعيفة الفاعلية، ومفتقدة المصداقية، خير شاهد على ذلك. نكمل الأسبوع المقبل بمشيئة الله، إلى اللقاء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي