قيادة المرأة .. ليست المشكلة

هل يسمح للمرأة بقيادة السيارة أم لا؟ هذا ليس السؤال، وإنما هل يفترض أن يطرح مثل هذا التساؤل في المقام الأول؟! فنجاح أي نظام اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي مرهون بمدى قدرته على التكيف والاستجابة لمتطلبات المجتمع، وتلبية احتياجات أفراده بكفاءة وفاعلية. وهذا يقتضي درجة عالية من الشفافية، وحرية التعبير، والنظر إلى القضايا من منظور الصالح العام، ونقاشها بسعة أفق، ووضع الأمور في نصابها، والبحث عن حلول مؤسسية، وتهيئة البيئة والمجتمع للانتقال إلى أوضاع اجتماعية واقتصادية أفضل. ولكن عندما يغيب ذلك تسيطر الأوهام والمخاوف والشك والريبة على المجتمع، ما يؤدي إلى رؤية مشوشة للواقع، وغموض المستقبل، واختفاء الحقائق، فلا نرى الأمور على حقيقتها، ومن ثم نغرق في الثانويات والجزئيات على حساب الأولويات والكليات، فنحجم عن اتخاذ القرارات الحاسمة لنظل نراوح في المكان ذاته، نندب حظنا على ما أصابنا من مشكلات، ونتساءل بحرقة وبلاهة: لماذا نقبع في ذيل قائمة التحضر الإنساني والتقدم الصناعي والتطور الاقتصادي؟! فيتولى الإجابة فريقان متطرفان بين إفراط وتفريط، ينطلقان في طرحيهما من اعتبارات أيديولوجية بحتة في اتجاه معاكس، يحمل التضاد والتعصب للرأي والتخندق الفكري، ليتم اختطاف المجتمع وإشغاله بنقاش أفكار تجريدية لا تمت للواقع بصلة؛ ليكون الشعار الذي يرفعانه "إذا لم تكن معي فأنت ضدي".
وهكذا يتم تعطيل مصالح الوطن العليا بنقاشات فكرية عقيمة لا طائل من ورائها، فلا اقتصادا طورت، ولا اجتماعا حققت. صحيح أن الاختلاف رحمة، لكن بشرط أن يكون داخل إطار المشترك الوطني؛ ليكون التباين حول الوسائل وليس الأهداف العليا للوطن. وعندما يكون الجدال من أجل الانتصار للنفس وتسجيل حضور وعصبية تشبه عصبية الجاهلية الأولى يتحول إلى نقمة. من العجيب أن في زمن التكتلات الدولية هناك من بيننا من يسعى إلى بث الفرقة من حيث يعلمون أو لا يعلمون، فيصنفون المجتمع إلى أتباع وأعداء على أساس أيديولوجي فكري صرف. حتى إن كل فريق يحكم على القائل وليس المقولة بأحكام مسبقة مستندة إلى ذلك التمييز الفكري. وهو في واقع الحال شخصنة للمواضيع والقضايا الوطنية المهمة، فالمقصد ليس البحث عن أوضاع مربحة للجميع، وصيغ يتوافق عليها فئات المجتمع، وإنما السعي حثيثا لإفشال جهود الطرف الآخر؛ لأن نجاحه حتى إن صب في منفعة الوطن فهو هزيمة نكراء في حقه! وهذا مرض اجتماعي عضال، أخشى أنه سيقودنا إلى كارثة ثقافية يغدو فيها العموم دون إرادة واختيار حر، يسيرون كالقطيع دون تفكير ومحاولة فهم ما يجري حولهم.
وعندما يفتقد المجتمع القدرة على التفكير والبحث عن حلول وخوض تجارب جديدة والتعلم منها وبناء الخبرة، فثمة مشكلة في التنمية الوطنية. هذا التشنج في المجتمع ليس له مبرر حقيقي سوى أن طموحات الأفراد تصطدم بجدران الحجر الفكري، ليتولد لديهم إحساس بالإحباط؛ لأنه فكر بلا عمل لتكون مهمته ترديد ما يقال دون وعي بالمقاصد والمآلات! فهناك من يتشدق بالديمقراطية وقيمها، وهو ذاته يعارض قيمها الجوهرية سلوكا ونقاشا، ويتمسك بقشورها التحررية، وكأنما الديمقراطية للمباهاة والتزين والتحضر والرقي حتى لو كان على حساب الثوابت الوطنية. وفي المقابل، هناك من يصر على تطبيق وسائل وأساليب الماضي على قضايا الحاضر والمستقبل، ويتخوف على القيم والمبادئ الأساسية من الضياع في متاهات المفسدة بنظرة تشاؤمية، وعدم ثقة بالقيم الراسخة في المجتمع، فلا يسعى إلى فهم الواقع والتجديد، وإنما يتبع منهج المنع، فيضيع فرص التطوير وتقوية القيم المحافظة بتحويلها إلى عمل مؤسسي، تكون فيه القيم سلوكا ملموسا وليس فكرا يتباهى به.
فها هي قضية قيادة المرأة أخذت أبعادا كثيرة، واستنزفت الوقت، وهي مجرد مسألة تنظيمية تتطلب فقط التهيئة التشريعية والمرورية، وإجراءات التنفيذ؛ لضمان سلامة قائدات المركبات، إلا أنها أقحمت في المناكفات الفكرية، فلم يتم الالتفات إلى الموضوع بواقعية، والبحث عما ينفع الناس ويقلل من قلقهم تجاه قيادة المرأة. ولذا لا الذين يدعون إلى قيادة المرأة ولا الذين يعارضونها يصرون على نقاش الموضوع برمزية سياسية ثقافية، فهناك من يصور قيادة المرأة بالمفسدة، وهناك من يصورها على أنها انتصار تاريخي لحقوقها، وأنها بداية التحرر من كل شيء، هذا التضخيم من الفريقين أفقد المجتمع توازنه في النظر بواقعية إلى المستجدات والبحث عن حلول عملية لمشكلاته، لذا نحن نعيش تناقضات في المجتمع لا يمكن تفسيرها منطقيا، فبينما يسمح معظم الناس لنسائهم أن تركب السيارة مع سائق أجنبي يعترضون على قيادتها السيارة بحجة الخوف عليها من التحرش، لكن التحرش والاعتداء يمكن أن يحدث في أي مكان وزمان إذا لم تتوافر البيئة الآمنة. وبعض الذين ينادون بقيادة المرأة لا يتوقفون عند ذلك الحد، بل يطالبون بالتحرر من جميع القيم الاجتماعية والدينية في الأماكن العامة، وجعلها اختيارا شخصيا. وهكذا أصبح موضوع قيادة المرأة ساحة حرب فكرية وتنظيرية وأيديولوجية، وليست نقاشا عمليا واقعيا بقصد تحقيق المنفعة المجتمعية.
ما نحتاج إليه في المجتمع هو تطوير آلية لإدارة الاختلاف في إطار مؤسسي، من خلال منح المجالس النيابية صلاحيات أكبر، وأولها وأهمها مجلس الشورى كهيئة وطنية منوط بها تمثيل الناس ومناقشة قضاياهم للخروج بقرارات حاسمة وخطط إجرائية تنفيذية تفصيلية مصحوبة بمتطلبات التنفيذ التنظيمية والمالية والبشرية. وإذا لم يتمكن مجلس الشورى من تقديم مشروع لإقراره، وهو أمر سيكون مستغربا، فيقترح تخصيص أحد الحوارات الوطنية لمناقشة الموضوع والخروج بتصورات واضحة المعالم لما ينبغي عمله. يجب أن نستفيد من درس النقاش العقيم الدائر حول قيادة المرأة؛ لإدراك أن هناك مشكلة حقيقية تتعلق بطريقة تفكيرنا تجاه المستجدات. إن إنكار الواقع لا يعني عدم تأثيره، وبالتالي فالحقيقة التي يجب أن نواجهها هي أن التغيير سنة الحياة شئنا أم أبينا، وإذا لم نعد العدة له فسنفقد السيطرة عليه، وسيقع ضرر أكبر مما كنا نخشاه بنهج المنع، ولذا فإن أفضل طريقة لإدارة التغيير هي إحداثه بخطة واضحة وخطا ثابتة. وهذا يتطلب تطوير العمل الجماعي المؤسسي لنعالج قضايانا بوعي تام، وفي إطار قانوني واضح المعالم يوجه الأفكار والجهود والموارد نحو ما ينفع المجتمع. فالوطنية الحقة تعني التجرد من الهوى الشخصي، وتبني الطرح الموضوعي، وإذا كان كذلك فموضوع قيادة المرأة ليس المشكلة، وإنما كيف ننظر إليه بحيادية وواقعية وبعقلية مستنيرة ورؤية مشتركة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي