فقر الطاقة بين الدعم الجائر وتجاهل الإعلام

بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم

لا يخفى على القارئ ظهور حملة منظمة من قبل بعض المحللين، مطالبين بالتفكير بجدية وجرأة وحسم في مسألة وقف نزيف الدعم المكلف لمصادر الطاقة ومشتقاتها. وأتت تلك المطالبة بالتزامن مع الانخفاض النسبي لأسعار النفط وأثر ذلك في مستقبل الإنفاق الحكومي. فبعد أن تجاوز استهلاك المملكة للبنزين نصف مليون برميل في اليوم كثالث أكبر مستهلك في آسيا بعد الصين واليابان، كان الاقتراح بوضع سياسة ضمن خطة ممنهجة والبدء برفع أسعار البنزين فورا لتغطية التكلفة على أقل تقدير، التي وصلت إلى 2.5 ريال للتر. لا نختلف في أن مستويات الاستهلاك المحلي لمصادر الطاقة لا تتناسب مع حجم الاقتصاد الوطني فحسب، بل وصلت لمراحل كارثية بسبب الدعم المسرف. إلا أنني أدعو الكتّاب بالتريث عند تناول موضوع رفع الدعم عن الطاقة وإعادة تنظيم توجيه الخطاب في هذا الشأن. فالتاريخ أثبت أن الحديث عن رفع الدعم في بلادنا هو معركة خاسرة يدفع ثمنها اليوم كل الأطراف بلا استثناء. وأكبر الخاسرين ـــ كالعادة ـــ هم صغار المستهلكين من ذوي الدخل المحدود. لذا شخصيا أرى أنه من باب العدل العمل فورا لإصلاح هيكلة الدعم وليس رفعه. والمقصود بإصلاح هيكلة الدعم هنا هو رفعه كليا عن ذوي الدخل العالي والصناعات والأعمال الكبيرة وإبقاؤه لذوي الدخل المحدود والصناعات الصغيرة والأعمال الناشئة. وإذا ما افترضنا جدلا أن التوجه المقترح هو الأكثر عدلا، فإن التقدم التقني الهائل سيكون عاملا مفصليا في إعادة توجيه الدعم لمستحقيه. إلا أن تطبيقه على أرض الواقع يصطدم بعدة معضلات.
ولا شك أن دعم الصناعة والأعمال مطلب مهم لنمو الاقتصاد وتوفير الوظائف وإن كان معظمها لغير المواطنين. إلا أن سياسة دعم الدولة خاصة فيما يتعلق بأسعار مصادر الطاقة لا تفرق بين الصناعات العملاقة والناشئة. وهذه السياسة ما زالت صامدة حتى أصبحت الصناعة تعاني شحا شديدا في الغاز، على سبيل المثال، وذلك على الرغم من اكتشاف حقول جديدة للغاز بكميات تجارية. لكن تكلفة استخراج الغاز من تلك الحقول تصل إلى ستة دولارات للوحدة، بينما يدفع المستهلك الصناعي العملاق تعرفة محددة منذ عقود لا تتجاوز ثلاثة أرباع الدولار للوحدة. هذه الحقيقة تعد عائقا استثماريا لا يستهان به لاستخراج الغاز إلا أن أغلب كبار مستهلكي الصناعة يحاربون أي محاولة لإصلاح السياسة السعرية للغاز. فلا تطورت صناعة الطاقة المحلية ولا اتسعت دائرة الصناعات الأخرى الأمر الذي حرم دخول الكثير من الأفراد إلى فئة الصناعة والأعمال. ربما كان من الأجدى أن يتم تقنين دعم الصناعة من خلال تقديم أسعار مخفضة للغاز في الأعوام الأولى من تشغيل المشاريع الناشئة. ومن ثم يتم الرفع التدريجي للأسعار فتتمكن شركات الطاقة من تغطية تكاليف اكتشاف واستخراج المزيد من الغاز لإمداد الصناعات الناشئة والجديدة. إلا أن كبار مستهلكي الصناعة – إجمالا – هم الأكثر تأثيرا لرفض أي توجه يهدف إلى تعديل هيكلة تعرفة الطاقة. ولو توافرت الإحصاءات التي تشير إلى حجم الاستثمارات وعدد الوظائف التي لم ترَ النور بسبب تحالفاتهم وإصرارهم وكيف أسهم ذلك في اتساع الفجوة الطبقية في المجتمع لربما أسرعت الدولة في إصلاح هيكل التعرفة وتجاهلت مصالحهم الضيقة.
واللافت في أغلبية مقالات وتقارير المحللين المطالبين بالرفع الفوري لدعم الطاقة أنهم لم يتعرضوا لآثار ذلك في فقراء الطاقة. المقصود بفقراء الطاقة هنا ذوي الدخل المحدود الذين ينفقون أكثر من 10 في المائة من دخولهم للحصول على الطاقة. فعلى الرغم من توافر مصادر الطاقة في بلادنا بأسعار زهيدة إلا أن وضعهم المادي يمنعهم من استهلاك ما يحتاجون إليه بالفعل، ولربما اضطروا لعدم الانتظام في دفع فواتير الكهرباء – إن استطاعوا - أو المشاركة في التنقل مع آخرين. ولعل أبرز تقرير يدل على أن هؤلاء لم يستفيدوا من الدعم الحكومي للطاقة بقدر ما استفاد منه الأغنياء، هو التقرير المشترك لمنظمة أوبك ووكالة الطاقة الدولية ومنظمة التعاون الاقتصادي والبنك الدولي الذي تم عرض نتائجه لقمة مجموعة العشرين في تورونتو في حزيران (يونيو) 2010. الغرض الرئيس من التقرير هو الاتفاق على تعريف مشترك للدعم الحكومي للطاقة وتخفيف حدة الجدل بين مصدري ومستوردي الطاقة. ما يهمنا هنا أن أكثر من استفاد من الدعم الحكومي للطاقة في الدول النامية هم أصحاب الدخل الأعلى. فإن 40 في المائة من السكان الأقل دخلاً من حيث توزيع الثروات لم يستفيدوا إلا من 15 إلى 20 في المائة من مجموع دعم الطاقة في الدول النامية. لا أعلم بوجود دراسة تصف حقيقة المستفيدين من دعم الطاقة في المملكة بشكل خاص، وأثر ذلك في اتساع الفجوة الطبقية للمجتمع، لكن ربما من الأنسب التذكير بأن قرار تعديل تعرفة الكهرباء بعد أقل من ستة أشهر من بداية تشغيل الشركة السعودية للكهرباء في عام 2000، لم تخدم إلا ذوي الدخل العالي فقط. فعلى الرغم من أن أكثر من ثلثي مستهلكي القطاع السكني لا يتجاوزون الشريحة الثانية، إلا أن قرار التعديل طبق ابتداء من الشريحة الثالثة فما فوق، ولم يمس الشريحتين الأوليين. بل إن الشرائح الأعلى كان لها النصيب الأكبر من التنزيلات في قرار التعديل. فبينما تم تخفيض تعرفة الشريحة الثالثة بنسبة 8 في المائة فقط، نجد أن أعلى شريحتين حصلتا على أكبر تخفيض نسبي وصل إلى 50 في المائة من التعرفة الأصلية. أشير هنا إلى من تجاوز استهلاكهم ثمانية آلاف وحدة في الشهر، كالقصور والفلل الكبيرة.
إن مسألة إصلاح الدعم جدلية، وأي قرار يتخذ في هذا الشأن يعود إلى حد كبير إلى مدى تقبل الرأي العام، الذي يشمل كبار المستهلكين وصغارهم. إلا أن أغلب كبار المستهلكين من ذوي الدخل العالي والأعمال والصناعات العملاقة يجتهدون، بل يستميتون لتقديم كل التبريرات المؤدية إلى إبقاء الدعم، ويتحججون بأن إبقاءه يخدم المصلحة العامة. ومتى ما شعروا بجدية توجه الدولة إلى إصلاح هيكلة الدعم قاموا بإثارة صغار المستهلكين من خلال تصوير أن ارتفاع الأسعار سيمسهم لتعطيل المبادرة. هنا يأتي دور الإعلام المحترف والمتزن لمساندة المبادرات التي تخدم المصلحة العامة من خلال كشف الحقائق بلا مجاملة أو تزلف.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي