Author

تراجع أسعار النفط .. ونظرية المؤامرة

|
تراجع أسعار النفط بنحو 28 في المائة عن مستويات تموز (يوليو) الماضي كان ولا يزال موضع اهتمام وتحليل في العديد من الأوساط محليا ودوليا. ومع تسارع وتيرة الخسائر خلال الأسابيع الماضية سارعت بعض الأقلام والأصوات الرسمية وشبه الرسمية في روسيا وإيران والعراق إلى تعليق الأمر على شماعة "نظرية المؤامرة". ويكفي بتقديري استعراض العوامل التي أسهمت في موجة التراجع الحالية لتفنيد آراء أصحاب هذه النظرية، فمن المعلوم أن أسواق المنتجات السلعية ومن ضمنها النفط تعتبر "مرآة عاكسة" لحالة الاقتصاد العالمي، وأسعار تلك المنتجات أول من يتأثر سلبا أو إيجابا بميزان العرض والطلب. هذه الحقيقة تؤكدها على سبيل المثال لا الحصر أسعار المعادن الصناعية التي تراجعت وفقا لمؤشر بلومبيرج بنسبة 50 في المائة عن مستويات عام 2007 بسبب زيادة المعروض يقابلها ضعف في الطلب في الصين، المستهلك الأكبر عالميا للمعادن الصناعية. وتأسيسا على ذلك فإن موجة تراجع أسعار النفط الحالية تكمن وراءها بالدرجة الأساس معدلات نمو ضعيفة في معظم اقتصادات الدول الصناعية، يجسدها تباطؤ التعافي الأمريكي واقتراب منطقة اليورو من دائرة الكساد وتعثر اقتصاد اليابان وتراجع نمو الاقتصاد الصيني. وفي المقابل تزداد تخمة السوق النفطية بزيادة إمدادات النفوط غير التقليدية وتحديدا النفط الصخري في الولايات المتحدة التي أضافت إلى طاقتها الإنتاجية خلال الاثني عشر شهرا الماضية مليون برميل يوميا ليصل مستوى إنتاجها اليومي إلى 8.7 مليون برميل هو الأعلى منذ 25 سنة. ومقارنة بمستوى إنتاجها في عام 2008، نجحت الولايات المتحدة في إضافة 3.9 مليون برميل تمثل زيادة بنسبة 80 في المائة عن مستوى إنتاجها قبل خمس سنوات. ويشار إلى أن هذه الزيادة تزيد على مستوى إنتاج كل دولة من دول أوبك الاثني عشر باستثناء المملكة! وزاد الطين بلة أن الدول النفطية من خارج منظومة الأوبك زادت إنتاجها عام 2014 بنحو 1.7 مليون برميل في ظل نمو ضعيف في الطلب بلغ نحو 0.9 مليون برميل يوميا خلال العام الحالي الذي يشهد أبطأ معدلات الطلب على النفط منذ عام 2009. في موجة التراجع الحالية لأسعار النفط هناك دول ستتأثر اقتصاداتها سلباً أو إيجابا، الفئة الأولى تشمل الدول المنتجة للنفط لكن الأثر السلبي الأكبر سيكون من نصيب روسيا وإيران والعراق وفنزويلا ونيجيريا. فيما تشمل القائمة الأخيرة الدول المستهلكة للنفط وفي مقدمتها الولايات المتحدة واليابان والصين والهند. فواردات الولايات المتحدة من النفط الخام مثلا تبلغ حاليا 30 في المائة من إجمالي الطلب المحلي متراجعة من مستوى 60 في المائة في عام 2012. وبقاء أسعار النفط عند مستوى 80 دولارا للبرميل لمدة عام سيعني توفيرا في أسعار الجازولين يحقق وفورات للأمريكيين تصل إلى نحو 160 مليار دولار. بين أكبر الخاسرين روسيا الاتحادية حيث تشكل الإيرادات النفطية نحو 40 في المائة من الإيرادات الحكومية، وتخسر موسكو ملياري دولار مقابل كل دولار يخسره برميل النفط، وهو ما يرجح حصول انكماش في الاقتصاد الروسي بدأت بوادره بانخفاض سعر صرف الروبل الروسي نسبة إلى الدولار بنسبة 23.5 في المائة من نحو 34 إلى 42 روبل للدولار. وأسهم تراجع أسعار النفط في انخفاض مؤشر سوق الأسهم الروسي بنسبة 24.6 في المائة منذ بداية العام. إقليميا ستكون الدول الأكثر تضررا إيران والعراق وكلا البلدين يحتاج إلى أسعار تتجاوز الـ 100 دولار لتحقيق التوازن في موازناته. ومعلوم أن إيران لا تزال تحت المقاطعة الدولية التي لا تتيح لها تصدير أكثر من مليون برميل من الخام يوميا نزولا من مستويات الـ 4 ملايين برميل يوميا في السابق. بالنسبة للسعودية فإن مستوى الأسعار الحالية للخام سيؤدي إلى تراجع إيراداتها لعام 2014 بنحو 40 مليار دولار، لكن في ظل ما لديها من فوائض مالية تزيد على 800 مليار دولار لن يكون لذلك أثر في مستويات الإنفاق العام على مشاريع البنية التحتية وبالتالي ليس من المتوقع تراجع معدلات النمو التي ترتبط بها وتيرة خلق فرص العمل. إضافة إلى ذلك فإن الأصوات المنادية بتخفيض إنتاج السعودية داخليا وخارجيا تبدو غير منطقية إذا ما أخذنا في الاعتبار أن استمرار المملكة في لعب دور "المنتج المرجح" أضحى غير ممكن، وأي تخفيض في حجم الإنتاج السعودي يعني ذهاب حصة المملكة إلى دول منتجة من أوبك أو من خارجها. وبالتالي فالهدف الاستراتيجي في هذا الظرف هو الدفاع عن حصة المملكة في سوق النفط العالمية التي حافظت عليها منذ عام 1975 عند 12 في المائة. ومن المهم بمكان الحفاظ على حصة المملكة في أسواق آسيا تحديدا التي ينمو فيها الطلب على النفط بمعدلات عالية. وفي هذه الأسواق تواجه السعودية تحديات آنية تتمثل بقيام إيران والعراق بتقديم أسعار مخفضة لنفطها، وتحديات مستقبلية تجعل من مستوى أسعار الـ 100 دولار في غير صالح المملكة، فهذا المستوى محفز لمنتجي النفط الأعلى تكلفة للتوسع في إنتاج مشاريعهم من جهة، إضافة إلى أنه يعزز من التوجهات في الدول المستهلكة لترشيد الاستهلاك عبر برامج تحسين كفاءة الطاقة. وسيجعل تراجع الأسعار عن مستوى 90 دولارا للبرميل عددا من حقول النفط الصخري الجديدة في الولايات المتحدة غير مجدية اقتصاديا، لكن الموضوعية تقتضي القول إن القسم الأعظم منها سيبقى مجديا اقتصاديا حتى بانخفاض الأسعار إلى مستوى 75 دولارا للبرميل أو أقل بقليل. ومن المؤكد أن انخفاض أسعار النفط دون ذلك المستوى سيجعل عددا متزايدا من تلك الحقول غير مجد. وعلى خلاف النفط الأحفوري فإن حقول النفط الصخري تنضب بسرعة ولا يتعدى معدل عمرها الزمني 5-6 سنوات في مقابل 40 سنة لحقول النفط الأحفوري، الأمر الذي يتطلب حفر آبار جديدة للمحافظة على مستويات الإنتاج، وهذا بدوره يتطلب ضخ استثمارات كبيرة وهو الأمر الذي بدأ في الانحسار أخيرا في ظل تراجع أسعار النفط. في ظل هذه المعطيات من المستبعد أن تتفق دول أوبك على خيار خفض الإنتاج في اجتماع تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. وبتقديري فإن مثل هذا الخيار ليس في صالح السعودية بل على العكس قد تكون موجة تراجع الأسعار الحالية في مصلحة المملكة في الأمدين القصير والمتوسط ، فمن خلالها يمكن ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد!
إنشرها