ثقافة وفنون

أزمة العلوم الإنسانية

أزمة العلوم الإنسانية

أزمة العلوم الإنسانية

أزمة العلوم الإنسانية

نعلم جيدا أن الرياضيات أخذت الدرب الآمن نحو العلمية في وقت مبكر جدا، أي منذ يونان قبل الميلاد، مع كل من فيثاغوراس وطاليس وبالضبط مع إقليدس، فهي مادة تتميز بالصرامة في نتائجها، والقوة في خطواتها بحيث تحظى بالاتفاق الكوني، فلا يمكن لمبرهنة فيثاغوراس مثلا والقائلة إن مربع الوتر في مثلث قائم الزاوية يساوي مجموع مربعي الضلعين المقابلين. أن تقبل من طرف البعض وترفض من طرف البعض الآخر فهي صائبة دائما، ويكفي لتصديقها أن يكون لك عقل بغض النظر عن انتمائك ودينك ولونك وعرقك وجذورك وتاريخك، إنها بكلمة واحدة تفرض وجودها. الكم والكيف إذن مع الرياضيات تمكنت البشرية من الحصول على أول مشترك. لكن اللافت للانتباه، هو أنه لم تتمكن البشرية من المشترك الثاني، بمواصفات قريبة من الرياضيات، إلا بعد مرور نحو عشرين قرنا، فكان الشرف في ذلك للفيزياء في القرن السابع عشرالميلادي، خصوصا مع غاليليو، فهي التحقت إلى غير رجعة بعالم الرياضيات ودخلت سكة العلمية من بابها الواسع، فأصبحت المادة منظورا إليها نظرة كمية عوض النظرة الكيفية، فتم التعبيرعن الطبيعة بمعادلات رياضية صارمة تم تتويجها بأول نظرية محكمة هي نظرية الجاذبية لنيوتن. #2# هذا التدشين من طرف الفيزياء جعل بقية المباحث تدخل تباعا إلى عالم الدقة مقلدة إياها، وهو ما حدث مع الكيمياء والجيولوجيا والبيولوجيا، فكلها اتجهت صوب الرياضيات كقبلة طلبا للكوني، وطمعا في الوضوح والاتفاق والتوافق، عوضا عن الخصوصي والغموض والأحكام المتضاربة. فالعلم كما هو معلوم حريص على عدم الحكم إلا بعد التقصي والغربلة والتمحيص وأخذ الفكرة من كل وجوهها دونما ميل أوهوى، دونما عاطفة أو وجدان، فالتعامل مع القضايا يتم في المجال العلمي بهدوء ودم بارد. لقد أصبحت النظرة العلمية القادمة من عالم الرياضيات والقائمة على شرطين أساسيين هما الدقة والموضوعية نموذجا ذهنيا موجها للرؤية في الزمن الحديث، إلى درجة أن كل مبحث أصبح "يتودد" للعلمية ويريد أن تكون سبيلا ومسلكا له، وإلا لن يعتد به. إن هذه الحمى نحو العلمية، ستتجاوز العلوم المسماة حقة، لتصيب العلوم المسماة إنسانية في أواسط القرن التاسع عشر للميلاد خاصة علم النفس وعلم الاجتماع، حيث ظهر العديد من المفكرين الذين انبهروا بنجاحات العلوم المضبوطة في المادة الجامدة وحاولوا إسقاط ذلك على الإنسان وهو الكائن الحر، إلى درجة أن أوجست كونت وهو من المؤسسين الأوائل لعلم الاجتماع اختار لعلمه اسم "الفيزياء الاجتماعية"، وهذا يدل على الإعجاب بالفيزياء كنموذج يحتذى به. الذات والموضوع لكن السؤال المطروح هو: هل يمكن أن يكون الإنسان ذاتا للمعرفة وموضوعا للمعرفة في الوقت نفسه؟ بعبارة أخرى، إلى أي حد يمكن التعامل مع الظاهرة الإنسانية على أنها شيء؟ وهل يتمكن العالم في الشأن الإنساني من التزام الحياد القيمي؟ أم أن الظاهرة الإنسانية مختلفة عن الظواهر العاطلة " كالجماد" وتتميز بالحرية التي تتجاوز الحتمية وتعيق القانونية ولا تسمح بفصلها عن الذات أثناء الدراسة ولا مفر من الانخراط الوجداني والمعياري فيها؟ #3# نعم لقد انطلقت العلوم الإنسانية بكل عنفوان وإيمان نحو ضبط الظاهرة الإنسانية وتحقيق شروط العلمية في دراستها: أي الدقة والموضوعية، لكن ما لبثت أن اصطدمت بحائط الظاهرة الإنسانية المنفلتة، فدراسة حجرة تسقط في الفيزياء ليست دراسة النفس الإنسانية، فالفرق شاسع جدا، فالحجرة خاضعة للحتمية الكاملة، فهي تستجيب بنفس الشاكلة إذا كانت نفس الشروط، أما الإنسان فهو كائن حر لا ينصاع مطلقا للسببية، فإذا ما قلت لك: إن السرقة كسلوك سببها الفقر، يمكنك أن ترد علي، نعم لكن ليس دائما، فكم من فقراء لا يسرقون. ومن جهة أخرى إذا كان فصل الذات عن الموضوع هو ذروة الموضوعية وذلك بإبعاد الدراسة عن كل شوائب الذات العاطفية والوجدانية والانتمائية، وإذا كان الحياد القيمي دليل الدقة والصرامة والنقل الحقيقي للواقع، فإن الباحث الاجتماعي مثلا، باعتباره باحثا في العلوم الإنسانية، لا يمكنه نهائيا الانفصال عن مجتمعه الذي يدرسه، فالباحث لا بد أن يكون عضوا في الجماعة ( طبقة اجتماعية، سياسية، مهنية) وهو ما يجعله مؤطرا بخلفية وقناعات أيديولوجية ومواقف معينة تزج به في صراعات صريحة أو ضمنية من أجل طلب الاعتراف أو الحظوة أو السلطة. فالباحث يدخل بكل ثقله المعياري والقيمي ونماذجه المثالية في عملية البحث بحيث لا يمكنه أن ينعزل ويتخذ حيادا نهائيا حتى ولو رغب في ﺫلك. ولمزيد من التوضيح لنقارن بين العلم الفيزيائي والعلم الإنساني وذلك انطلاقا من المثال التالي: إذا كان العالم الفيزيائي لا يحتاج في فهمه للذرة إلى الإحساس بها، أو أن يكون مثلها حيث إن الذرة بمكوناتها لا تسبب له أي تأثيرات أو ردود فعل وجدانية ( فالذرة لا حزب لها ولا نقابة ولا طبقة اجتماعية تنتمي إليها) فإن الباحث في العلوم الإنسانية لكي يتمكن من الغوص والنفاذ إلى التجربة الفردية الجماعية ملزم بالانخراط والمشاركة فيها وهو الأمر الذي يجعل العلمية ناقصة. إذن قدر الباحث في الشأن الإنساني أن يعيش مفارقة، فبقدر ما هو جزء من الجماعة التي يدرسها بقدر ماهو مطالب بالتموضع خارج هذا المجتمع لتحقيق مطلب العلمية، وهذا طمع في غير مطمع. فرق في الطبيعة ولمزيد من فهم معضلة العلوم الإنسانية نذكر بموقف "لوسيان جولدمان" الذي يرى أن الفرق بين العلوم الحقة والعلوم الإنسانية، لا يوجد في الدرجة فقط بل حتى في طبيعة كل علم، ففي البحث الفيزيائي مثلا أن الجميع يتفق عليه مهما كان الاختلاف بين الناس: فكريا، دينيا، طبقيا، اجتماعيا. ولكي يوضح الفكرة أكثر يعطي المثال التالي: إذا قلنا إن المعدن يتمدد بالحرارة، فهذه نتيجة لا أحد يمكن أن يقول عكسها، لأنها حقيقة تطابق الواقع وتعبر عنه بموضوعية لذلك تفرض نفسها بقوة سواء كان المرء مؤمنا أو ملحدا، متشائما أو متفائلا، أي مهما كانت قناعاته الأيديولوجية ومواقفه الفلسفية. في حين أن هذا لا ينطبق على العلوم الإنسانية فهي لا تحصل على الإجماع في دراساتها، فهي مجال الاختلاف الجذري، بل هي حقل للصراع، حيث لا يوجد حكم مشترك حول الظاهرة الإنسانية، وسبب ذلك حسب جولدمان هو كون الباحث يدرس الوقائع الإنسانية وهو مثقل ومحمل ومشحون بمفاهيم قبلية ومقولات مضمرة وإملاءات لا واعية، تسد عليه الطريق نحو الفهم الموضوعي. وقصد التوضيح يضرب جولدمان مثالا وهو: إذا ما صدر عن باحث حكما يفيد أن المجتمع الأفضل هو المجتمع الاشتراكي أي: مجتمع دون طبقات فسيكون هذا الحكم ليس مدار اتفاق وإجماع بل سيواجه بحكم آخر مختلف عنه. بكلمة واحدة نقول ٳن مباشرة المادة ليست كمباشرة الإنسان. هذا الأمر دفع الباحثين إلى الانقسام، فالبعض أعلن تشاؤمه من علمية العلوم الإنسانية، وتقرير أن قدرها الفشل، معلنين أنها أخطأت حينما سعت إلى تقليد العلوم الحقة، بل هي لا تستحق لقب علم بالأساس، لأنها لم تستوف الشروط العلمية الكافية والأجدر تسميتها بالدراسات الإنسانية فقط. وفي نفس الآن كان البعض الآخر على العهد وفي، كعالم النفس الشهير جون بياجي فهو كان جد متفائل حول مستقبل العلوم الإنسانية ويرى أن على العلوم الإنسانية أن لا تندهش من بطء حركتها، فهي ما زالت جنينية وفي طور النشأة، لذلك هي مطالبة بالتريث وعدم التسرع في قطف الثمار وأن تسير قدما وبنوع من التفاؤل والثقة بعملها، وأن تعتبر ما وصلت إليه هو جد متواضع مقارنة بالآمال المنشودة المعقودة عليها، ولكي يطمئن بياجي العلوم الإنسانية يذكرها بالفيزياء التي تطلب ظهورها قرونا عديدة بعد الرياضيات، فالمسألة تحتاج دائما إلى وقت قبل بلوغ مستوى النضج وأخذ الطريق الآمن نحو العلمية. *أستاذ الفلسفة - المغرب.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون