صناعة الدولة .. من غريزة الصراع إلى ثقافة السلم والتفويض

صناعة الدولة .. من غريزة الصراع
إلى ثقافة السلم والتفويض
صناعة الدولة .. من غريزة الصراع
إلى ثقافة السلم والتفويض

يعد الفيلسوف توماس هوبز (1679/1588) مؤسسا للفلسفة السياسية الحديثة عن جدارة وذلك لأسباب متعددة يكفي منها وضعه اللمسات الأولى لفكرة التعاقد الاجتماعي وذلك في انتظار ترميمها وتعديلها من طرف الجيل اللاحق عليه، خاصة مع الفيلسوف جون لوك وجان جاك روسو.

لقد استطاع هوبز تجاوز المنظور القديم ،الأرسطي الجذور، القائم على أساس أن الإنسان كائن اجتماعي بالطبع نحو تصور للدولة قائم على أساس التفاوض والتعاقد بين أفراد الشعب، بمعنى أنه مع هوبز ستبدأ ملامح فكرة أن السياسة صناعة ليست جاهزة، بل تبنى وتشيد من طرف الإنسان. سنحاول في هذا المقال أن نشرح بعضا من ملامح هذه النظرة الجديدة للفكر السياسي. لكي يوضح لنا هوبز فلسفته السياسية لجأ إلى تقسيم المجتمع افتراضيا إلى حالتين هما حالة الطبيعة وحالة التعاقد، ولك أيها القارئ بيان ذلك:

أ - المجتمع في حالة الطبيعة

ينطلق هوبز من السؤال الافتراضي التالي: ماذا سيحدث إذا ما عزلنا مجتمعا معينا في حالة يغيب فيها القانون وتغيب فيها السلطة السياسية؟ ما هي طريقة الحياة التي ستسود إذا لم تكن هناك قوة عامة تردع الناس؟ فيجيب بأن الوضعية ستكون هي الفوضى والبطش والسلب والنهب.. فكل فرد وجراء الخوف سيتجند للدفاع عن نفسه بنفسه والعمل على ضمان سلامته وبكل القوة والمؤهلات التي بحوزته، الأمر الذي سيدخل المجتمع في "حرب الكل ضد الكل" على حد تعبير توماس هوبز نفسه فتبرز شرانية الإنسان وعدوانيته وهو معنى عبارته المشهورة "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان".

#2#

إن مما يميز وضعية حالة الطبيعة في مملكة الإنسان عن مملكة الحيوان هو كون الحيوانات تعيش حالة من غياب التساوي في القوة، فالذئب مثلا ينسحب ويستسلم بسهولة أمام قوة الناب والمخلب التي للأسد٬ أما عند الإنسان فالأمر مختلف تماما فإمكانات القوة عنده أوسع بكثير من إمكانات الحيوان (عضلات، مال، حسب، منصب، ذكاء، جمال ...) ٬ فهناك مساواة بين البشر في القدرات مما يهدد باستمرار الصراع٬ فكل عنف سيولد عنفا مضادا بالضرورة٬ يقول توماس هوبز:" إذا ما نظرت إلى القوة البدنية وجدت أن الأضعف جسميا في مقدوره أن يقتل الأقوى إما باستخدام الحيلة أو بالتحالف مع الآخرين مهددين بنفس الخطر الذي يهدده".

يؤكد هوبز أن الطبيعة الاجتماعية الأصيلة هي حركة قوة منبعثة من الأفراد غير متوقفة٬ فالمجتمع في جوهره عبارة عن ذرات بشرية متنوعة تدور وتتصادم وهو ما سيفضي إلى تطاحنات مخيفة ومرعبة تخلق عالما دراميا ومأساويا، لن يسمح للمرء بالعيش إلى حدود السن المعتاد٠

إن فلسفة توماس هوبز السياسية تنبني على أبعاد سيكولوجية واضحة فهو ينطلق من كون الإنسان يخشى الموت ويبحث عن البقاء بأي ثمن٬ فإذا ما واجهتك بمسدس ولديك المال وهو حقك في الملكية٬ فإنك لا محالة ستتنازل عنه من أجل بقائك٬ فالبقاء لا يساوم، فهو أقدس الحقوق على الإطلاق٬ وهو ما سيكون له مستقبلا الأولوية في المدونات الحقوقية٬ فلا شيء يضاهي حق البقاء.

وما دام الأمر كذلك فقد وجب إذن الخروج من حالة الطبيعة نحو صناعة الدولة٬ فقد افترض هوبز حالة الطبيعة لتبرير الحاجة إلى نظام سياسي محكم٬ ولتبسيط الأمر قدم هوبز حكاية طريفة عن شعب بلاد في القديم تقول "إنهم كانوا عندما يموت الملك، يترك الناس دون حكم عمدا لمدة خمسة أيام٬ فيكثر البطش والنهب والاغتصاب. وبعد هذه المدة ينصب الملك الجديد فيسرع الناس الذين بقوا على قيد الحياة نحو هذا الملك لأداء الطاعة والولاء لأنهم استوعبوا رعب الحالة التي يكون عليها المجتمع في غياب السلطة السياسية الرادعة.إذن للحفاظ على الحق الأسمى للإنسان وضمان سلامته وأمنه٬ على المجتمع أن ينتقل نحو الحالة المدنية أو حالة التعاقد الاجتماعي وهو ما سنوضحه الآن.

ب - الحالة المدنية: حالة التعاقد الاجتماعي المثالي

بعد الافتراض الذهني لحالة الطبيعة التي أوصلنا من خلالها هوبز إلى أن أصل الاجتماع البشري مأساوي ومهدد لأثمن حق٬ أي حق البقاء٬ سيقترح حلا سيكون هو نظريته في السياسية٬ إنه حل التعاقد الاجتماعي٬ فما هي ملامح هذه النظرية؟

يرى هوبز أنه لا مخرج من حالة الطبيعة الدرامية إلا بإحداث تفاوض يتنازل فيه أفراد المجتمع عن قوتهم كاملة لصالح حاكم قوي يكون على شاكلة "الليفيتان" وهو عنوان كتابه الذائع الصيت٬ فتسمية الكتاب بهذا الاسم ليس اعتباطا، فالليفيتان مستوحى من اسم وحش أو تنين بحري ورد الحديث عنه في التوراة وهي قصة تحكى عن وحش قوي جدا كان يحكم بقية الوحوش الأخرى٬ لكن ذات يوم قررت هذه الوحوش التمرد عليه والخروج عن سيطرته فتزعزع عرشه وكاد أن يسقط لولا أنه استجمع قواه وكان لهم بالمرصاد وأوقف عصيانهم.

إذن هوبز يرى أن الحاكم المتعاقد حوله يجب أن يكون شبيها بالليفيتان بحيث تكون له كل الصلاحيات التي تسمح بردع كل تمرد محتمل ويعيد المجتمع إلى حالة الطبيعة٬ وأن إلقاء نظرة حول غلاف كتاب الليفيتان يبرز أن الحاكم عليه أن يمسك السلطتين المدنية والدينية معا بحيث تكون بيده كل مقاليد الحكم فهو من يسن الشرائع ويضع القوانين ويشرف على الحقول والصناعة والزراعة والمدن والقرى والكنائس والمجامع والقلاع والحصون والغابات والقصور.. فلا شيء ينفلت من قبضته فإرادات جميع أفراد الشعب تتحد في إرادة واحدة هي إرادة هذا الحاكم الذي يسميه هوبز بالإله الفاني الذي سينعم الكل تحت إمرته بالأمن والسلم.

إذن المخرج النهائي بحسب هوبز من فوضى وغريزية حالة الطبيعة وضمان الأمن والسلام المشترك لن يتأتى إلا "بموجب اتفاقية كل فرد مع كل فرد٬ كما لو كان كل فرد يقول للآخر إنني أخول هذا الرجل أو هذه المجموعة من الرجال٬ وأتخلى له أو لها عن حقي في أن يحكمني أو تحكمني٬ شرط أن تتخلى له أولها أنت عن حقك وتجيز أفعاله أو أفعالها بالطريقة عينها".

إن هوبز من دعاة عدم تفتيت السلطة والعمل بجهد غير منقطع من طرف أفراد المجتمع على تجميعها٬ في قبضة واحدة . تلك هي نفسها حال الدولة٬ فإذا تركت لذاتها لوقعت فريسة للحرب الأهلية أو الفوضى وستكف عن أن تكون منظمة بل إنها لن تكون دولة على الإطلاق والمخرج هو الانتقال من الوضع الطبيعي نحو الوضع الصناعي ومن هنا نصل إلى فكرة جوهرية وهي أن الحق ليس جاهزا بل يصنع وإذا ما تركنا أنفسنا مع الجاهز فهذا الحق سيكون منطلقا دون حدود إلى درجة ضياع هذا الحق.

ختاما، قد يقال كيف يمكن لرجل كهوبز وهو من المدافعين عن الحكم المطلق٬أن يكون من واضعي اللبنات الفلسفية المؤسسة للفلسفة السياسية الحديثة، ونحن نعلم أن الحكم المطلق بما فيه من استبداد ضد كرامة الإنسان؟ وأن حقوق الإنسان مرتبطة بالفردانية وليس الكليانية٬ إن الجواب يكمن في أن إطلاقية الحكم عند هوبز لا تتنافى والفردانية فهي ليست مفروضة من فوق ولكن هي اختيارية ومن أجل المنفعة الفردية الخاصة وهي ضمان السلم والحياة فما سيربحه المرء في الحالة المدنية لن يربحه في حالة الطبيعة. فمسألة الأمن هي أم الحقوق وهو ما نجده منصوصا عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 في مادته الثالثة " لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه "ناهيك على أن فكرة هوبز تعد اللبنة الأولى للفكر الليبرالي حسب البعض فالتنظير لحفظ الذات مع هوبز مهد الطريق للفيلسوف جون لوك للحديث عن حقوق هذه الذات المنيعة وبخاصة الحرية والمساواة والملكية والتي ستتوج في النهاية بتنظير في اللذة والربح.

أستاذ الفلسفة / المغرب

الأكثر قراءة