«تيريز ديكيرو».. محاولة اكتشاف الذات باقتراف جريمة

«تيريز ديكيرو».. محاولة اكتشاف الذات باقتراف جريمة
«تيريز ديكيرو».. محاولة اكتشاف الذات باقتراف جريمة

"لم أكن أرغب في الادّعاء بأنني شخص آخر، وأن ألعب دوراً مزيفاً". قد تبدو تلك العبارة معبّرة عن شخص يعاني قلقا وأزمة داخلية. لكن أن ينم ذلك عن تفسير لاقتراف جريمة، كمحاولة "تيريز ديكيرو" في الفيلم المسمى باسمها قتل زوجها، وزيادة جرعة دوائه، يعدّ أمراً يثير التعجب، وخصوصاً أنها تتعذر بمحاولتها للقضاء على رتابة حياتها والتحرر من قيود الارتباط بشخص أصبحت الحياة معه خانقة.

الفيلم درامي مقتبس من الرواية الكلاسيكية للفرنسي الحائز على جائزة نوبل، فرانسوا مورياك (1927)، تعد من أشهر رواياته. تميزت أعماله الأدبية التي تندرج ضمن الأدب الروحي الكلاسيكي، بتركيزها على ثيمة معينة وهي محاولة اكتشاف الذات البشرية، وذلك الإحساس الممعن بالذنب، والقنوط والسعي وراء الغفران. تم إخراج فيلم للرواية ذاتها في عام 1962 للمخرج جورج فراغو. اختير كفيلم ختامي في مهرجان كان السينمائي لعام 2012. ويعد الفيلم آخر أعمال الفرنسي كلود ميلر قبل وفاته في العام ذاته. حاول ميلر التنقيب عن النفس البشرية ذات نزعة الشر الدفينة، حيث يتسبب قلق اجتماعي في ارتكابها جريمة. أبدع المختص في التصوير السينمائي جيرارد دي باتيسا في إبراز تلك الحقبة الكلاسيكية سواء من خلال تصوير يركز على مناظر الطبيعة بشكل بانورامي خلاّب وبألوان هادئة، وأزياء كلاسيكية غير لافتة تتيح الفرصة للتركيز على الوجوه والمحيط، بتقريب الكاميرا من الشخوص لوصف الحالة النفسية التي يعاصرونها.

هل بإمكان المخرج إيجاد قالب سينمائي يعبّرعن قناعات كاتب نابغ، تعد أعماله من الكلاسيكيات الأدبية؟ يبدو ميلر وكأنه أخفق في تجسيد ذلك القلق الوجودي، لشخصية تيريز الثائرة وأفكارها الميئوسة. اختار لتأدية دورها الفرنسية اللامعة أودري تاتو، التي اشتهرت بعد فيلم "إيميلي بولان"، المغاير لدورها في الفيلم الأخير حيث تحاول التخلص من النمطية باستمرار من خلال اختيار أدوار مختلفة. وإن كانت المقارنة بإبداعها في أداء دورها لشخصية إيميلي لا تزال تطاردها، بعد أن ظهرت في أكثر أدوارها تعبيراً. وخصوصاً أن دورها في تقمص شخصية تيريز جاء بارداً، وملامحها صامتة غير معبّرة، من الصعب أن تدفع المشاهد للتعاطف معها. الحوارات متهالكة جافة، والأحداث بطيئة. قد يكون ذلك لأن مورياك برع في استخدام المونولوج الداخلي في الرواية، ليس لتيريز فحسب وإنما لعدة شخصيات. وهو ما افتقر له الفيلم الذي يغلب عليه صمت شمل ملامح صلدة. افتقر الفيلم لأي وسيلة تنم عن الأفكار التي تعج بها رؤوس الشخصيات المحورية. الأحداث تبدو غريبة يصعب تتبعها، إن فقدت التركيز من البداية فمن الصعب اكتشاف ما يحدث.
#2#
"لماذا فعلت ذلك؟" يسألها زوجها التقليدي بيرنارد الذي قام بدوره جيل ليلوش، زوج بارد شوفيني اقترنت به بسبب مصالح مشتركة فاكتشفت جفاءه، لا يبحث إلا عن الاستقرار الأسري والحفاظ على سمعة العائلة. تجيبه تيريز باستهتار: "ربما لأراك قلقاً، ربما هو فضول... هل تعلم دائماً لماذا تفعل كل ما تفعله؟ لا يمكنني أن أعطيك توضيحاً جيداً. مجرد أكاذيب". تنم عبارتها تلك عن الأزمة الاجتماعية التي تعانيها، فبعد أن اختارت الانقياد للقيود الاجتماعية شعرت بالاختناق من الانتماء لطبقة برجوازية رتيبة، وحياة زوجية مملة تسعى لحماية تقاليد الأسرة. فتقرر في لحظة جنونية محاولة القضاء على مصدر تعاستها، وقتل زوجها المريض، بزيادة جرعة دوائه. ويترتب على ذلك تداعيات مأساوية.

"كيف تغلغل السم ونفد تحت أقدامنا؟" تظهر الفوضى بعد محاولة تيريز الفاشلة القضاء على بيرنارد. يكتشف كل من يحيط بها فعلتها، وتتعرض لمحاكمة واتهام لها بمحاولة قتل زوجها. يظهر الكل قلقين يحدقون بتيريز كامرأة على حافة الجنون، ويطلبون منها الابتعاد بجسدها بعيداً عن زوجها وابنتها. وعلى الرغم من نجاتها من المحاكمة بسبب دفاع بيرنارد لها، إلا أنها تتعرض لسجن داخلي قاس، حيث تحتبس في غرفة انفرادية بعيداً عن مجتمعها. محاكمة الجميع لها واحتقارهم لفعالها تسببت في تآكل روحها وجسدها، وتدهور حالها حتى غدت متغضنة الجسد غائرة الوجه. تمعن في حرق السجائر دون أن تظهر أدنى انفعال. تحدق بها مدبرة المنزل باشمئزاز ومحاكمة: "عاجلاً أم آجلاً ستقومين بحرق المنزل." إحدى مشاهد الفيلم الأكثر إيلاماً وقسوة، حين تطلب من زوجها الصفح، فيخبرها بأنه سامحها، فيشرق وجهها بابتسامة معبرة وتلتمع عيناها، من المشاهد النادرة في الفيلم حيث تعبر ملامح أودري عن مشاعرها. يفاجئها برد قاس: "كيف تجرؤين على الابتسام؟"

"أحاول أن أجد نفسي مرةً أخرى". تبحر تيريز في عوالم أخرى تحاول من خلالها اكتشاف أعماقها. تحاول تغيير مصير ما حولها، لأن ذلك هو المصدر الوحيد لسعادتها، فمحيطها هو ما يشكل هويتها. وذلك ما انتقده فيلسوف الوجودية جان بول سارتر في مورياك، حيث استشهد برواية "تيريز ديكيرو"، موضحا أنه يفشل في إعطاء حرية الاختيار لشخصياته، ويقحمها بأقدار مفروضة، ثم يسلط محاكمات أخلاقية عليهم.

الأكثر قراءة