السلاح والحليب بين بريطانيا وإسرائيل

"إذا هاجمك كلب، فاقتص ممن يرعاه. لا تلوموا إسرائيل، وجهوا اللوم والمحاسبة إلى الإدارات الأمريكية المتعاقبة الراعية لها"
روبرت دي نيرو ممثل ومخرج ومنتج أمريكي

أيا كان مستوى الحظر العسكري الذي تفرضه بريطانيا على إسرائيل، فسيكون رمزيا أكثر منه عمليا. وحتى بتوصيفه هذا، أحدث خلافا بين طرفي الحكومة الائتلافية الحاكمة في المملكة المتحدة، بين المحافظين، وبين الليبراليين الديمقراطيين، الذين لولاهم لما تمكن المحافظون من تشكيل حكومة. الليبيراليون يؤمنون أن الجانب الأخلاقي في هذه المسألة بات قضية ملحة، بينما يرى المحافظون التريث أو الإقدام على هذه الخطوة بأقل سرعة ممكنة. وفي ظل هذا المفهوم المحافظ، دب الخلاف بين طرفي الحكومة. صحيح أن الغلبة في السلطة حاليا للمحافظين، ولكن الصحيح أيضا، أن رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، لا يمكن أن يغامر بأي خلاف يخرج عن السيطرة. فقبل أيام فقط استقالت الليدي وارسي وزيرة دولة بوزارة الخارجية، لأنها كما قالت "لا تستطيع أن تدافع عن سياسة حكومتها حيال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة".
رضخ كاميرون في النهاية للضغوط من نواب شركائه الليبراليين، إلى جانب نواب حزب العمال المعارض، في فرض حظر على تصدير السلاح (ولو مرحليا) لإسرائيل. وكانت النتيجة، إيقاف الصفقات المخصصة لسلاح البحرية الإسرائيلي، على اعتبار أنه قام بعمليات عسكرية أوقعت عددا كبيرا من الضحايا المدنيين في صفوف الفلسطينيين. لقد تم فحص 182 ترخيصا بتصدير أسلحة من بينها 35 ترخيصا يتعلق بتصدير وسائل قتالية لسلاح البحرية الإسرائيلي. وفي نهاية الفحص تقرر إلغاء خمسة تراخيص خاصة بتصدير معدات ووسائل قتالية للسفن التي يمتلكها سلاح البحرية الإسرائيلي. وقد وجدت الحكومة البريطانية (بعد الضغوط) أن "العمليات التي قامت بها سفن سلاح البحرية الإسرائيلي خلال عملية - الرصاص المنصهر - تتنافى والاتفاقيات الأمنية المبرمة بين إسرائيل وبريطانيا.
مثل هذه النوع من العقوبات، هو في الواقع سياسي رمزي، لا يؤثر بأي شكل من الأشكال على قدرات جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي حظي في عز العدوان على غزة بإمدادات أمريكية عسكرية مختلفة، بصرف النظر عن "الخلافات" السياسية بين إدارة الرئيس باراك أوباما وحكومة بنيامين نتنياهو. ومن المصائب، أن هناك جهات عربية تعتقد بأن مجرد وجود خلاف سياسي بين تل أبيب وواشنطن، هو "انتصار" عربي! وبعيدا عن هذا المفهوم الملتبس، تبقى الخطوات التي اتخذتها بريطانيا ضد إسرائيل (قبل العدوان على غزة)، أهم وأكبر أثر على الساحة الإسرائيلية. فتل أبيب التي تنتج السلاح، لم تعتمد على السلاح البريطاني من قبل، باستثناء المرحلة المباشرة التي أعقبت اغتصاب فلسطين من قبل العصابات الصهيونية المعروفة. وكان زخم السلاح الفرنسي لإسرائيل، أكبر من البريطاني لها.
في الأشهر الماضية، تركت المقاطعة التي فرضتها بريطانيا على منتجات المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة أثرا، وإن لم يكن كبيرا. وفي الحقيقة، كانت هذه العقوبات جزءا أصيلا من سلسلة عقوبات فرضها الاتحاد الأوروبي على تل أبيب، كنوع من الضغط على وقف بناء المستوطنات، والحد من عمليات التهويد التي تتعرض لها مدينة القدس منذ عقود. ومع ذلك لم يتوقف النشاط الاستيطاني، الذي يعتبره الإسرائيليون ضمانة لهم لاستمرار إحكام سيطرتهم على المناطق المحتلة، وإيجاد حالة من الأمر الواقع، تدعمهم في "المفاوضات" المترنحة مع الجانب الفلسطيني. وانحصرت العقوبات البريطانية في هذا المجال، في نطاق بعض المنتجات الزراعية، والألبان وما يتصل بها. والأثر السلبي الواضح على هذه المنتجات، لا يعود فقط للعقوبات البريطانية، بل لمجمل العقوبات الأوروبية.
ورغم أن المقاطعة الأوروبية انعكست بصورة خطيرة على عدد المصانع وجهات الإنتاج الإسرائيلية، إلا أنها من حيث القيمة تبقى متواضعة. وطبقا لآخر تقدير إسرائيلي، فإن ما يقرب من 80 مصنعا إسرائيليا متخصصا في إنتاج الحليب والألبان مهددة بالإغلاق بشكل نهائي. ومنتجات هذه المصانع تأتي كلها من المستوطنات. لكن بالنظر إلى القيمة، فإن إجمالي الخسائر لا تتعدى 30 مليون دولار. وما يخيف الإسرائيليين، ليس هذا الحجم من الخسائر، ولكن القرارات الأوروبية الإضافية المتوقعة التي ستتضمن فرض المزيد من العقوبات على أكبر نسبة من منتجات المستوطنات. وهذا يشكل رعبا حقيقيا على المدى المتوسط في تل أبيب. وسيكون الرعب أكبر، لو قام الاتحاد الأوروبي، بفرض عقوبات أكثر اتساعا مرة واحدة، وليس على مراحل.
ورغم حالة الرعب هذه، فإن إسرائيل تضمن لنفسها الاستمرار في احتلالها المتواصل وعدوانها المتكرر. فالجانب الأمريكي حيالها يبقى آمنا، بصرف النظر عن "مسرحيات" الخلافات مع الولايات المتحدة. ويبقى المصدر الأهم للإمدادات العسكرية وللعلاقات الاقتصادية، التي تحتاج إليها تل أبيب. ولتفرض بريطانيا ما تشاء من العقوبات العسكرية، حتى إن انتقل ديفيد كاميرون من حالة التردد إلى وضعية الإقدام على مثل هذه الخطوات. فالبريطانيون الذين يضغطون لمزيد من حظر السلاح لإسرائيل، قد يشعرون أنه من الواجب القيام بذلك، لكنهم يشعرون بصورة أكبر وأهم بأن الحظر يخفف عليهم وطأة المسؤولية الأخلاقية، المتمثلة في إنتاج إسرائيل مزيدا من أشلاء الأبرياء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي