Author

إخضاع «سابك» للمراجعة وإعادة التقييم

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
حينما يُفتح ملف شركة بوزن سابك، وتتم مراجعته بهدف إصلاح ما هو بحاجة ماسّة إلى الإصلاح والتقويم، فهذا أمرٌ تصبُّ فائدته الأخيرة في مصلحة الاقتصاد الوطني قبل "سابك". فكما تبيّن من المقال السابق "سابك.. نهاية عهد الدعم الحكومي"؛ أنّ الشركة أصبحتْ تشكّل بواقعها الراهن عبئا ثقيل الوزن على كاهل الاقتصاد، على العكس تماما مما كان مُسلّما به في وقتٍ سابق، لغياب الفحص الدقيق لما يجري داخل هذه الشركة والشركات الخاضعة لسيطرتها، والبحث في علاقاتها المتعددة مع بقية الأطراف، سواء مع المورّد الرئيس لها لمصادر الطاقة، أو مع المشترين منها محليا بالدرجة الأولى من شركات ومؤسسات وطنية، أو المستثمرين في مقدّمتهم الحكومة بصفتها المستثمر الأكبر. أظهرتْ القراءة السابقة أنّ مجمل ما تضيفه "سابك" من ربحية ليس إلا نتيجة وفورات الحوافز السعرية (اللقيم والكهرباء والماء)، التي قُدّرتْ العام الماضي بنحو 39 مليار ريال، مقابل صافي ربحية 29.2 مليار ريال، وأنّها في غياب تلك الحوافز كانتْ ستحقق خسارة سنوية تصل إلى - 9.6 مليار ريال. كما أظهرتْ أنّ مقابل ما تقدّمه الحكومة من حوافز لم تتجاوز حصتها من العوائد الموزّعة سقف 10.5 مليار ريال في 2013، ما لا تتجاوز نسبته 27 في المائة من فاتورة الحوافز. وأظهرتْ أنّ "سابك" منفردةً تستهلك من مصادر الطاقة (غاز، كهرباء، إلخ) ما يعادل تقريبا استهلاك قطاع النقل كاملا في المملكة (نحو 11 مليون مركبة نقل)، وأنّها استحوذتْ من الدعم السنوي للطاقة المكلّف للاقتصاد الوطني البالغ 460 مليار ريال (17 في المائة من إجمالي الناتج المحلي) خلال 2013، أقول استحوذت تقريبا على عُشر تلك الفاتورة الباهظة، مقابل مساهمتها بما لا يتجاوز 1.7 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وما لا يتجاوز 5.0 في المائة من إجمالي ناتج القطاع الصناعي. تقتضي المرحلة الراهنة ومستقبلا، بناءً على التحديات التي يواجهها اقتصادنا الوطني بخصوص الاستهلاك المفرط في أرصدته الناضبة من مصادر الطاقة، وعلى مستوى بقية التحديات الأخرى الجسيمة بدءا من ضرورة الإسراع على طريق تنويع القاعدة الإنتاجية، والعمل على زيادة تأسيس مشروعات القطاع الخاص وتوسيع القائم منها، وإيجاد المزيد من الفرص الكريمة لعمل المواطنين والمواطنات، ورسم علاقاتٍ اقتصادية متكافئة ومتينة مع الشركاء التجاريين في الخارج، تسهم في نمو صادرات الاقتصاد الوطني غير البترولية، كل هذه التحديات تقتضي بالضرورة أنماطا أخرى تختلف جذريا عمّا هو قائمٌ في الوقت الراهن، بدءا من السياسات الاقتصادية القائمة وانتهاء بمخرجات واقع تلك السياسات، التي أخرجتْ في أغلبها قطاعا خاصا ذا قاعدةٍ هشّة، على عكس ما كان يؤمل منه أنْ يكون تنافسيا يصمد في وجه أية تحدياتٍ تستجد، في مقدمّته شركة "سابك" المنشأة الأكبر والأثقل وزنا في ميزانه. بناءً عليه، إذا أردنا فعليا رسْم تلك الأنماط الجديدة المستهدفة للاقتصاد الوطني، فلا بد من مراجعة كل صغيرة وكبيرة في مكونات هذا الاقتصاد، والبحث في جدوى كل مكوّن منها، سواءً "سابك" أو غيرها، وإدراك أنّ جهدا كهذا الجهد الكبير ستكون من نتائجه في المديين القصير والمتوسّط آثار مؤلمة، غير أنّها ستخرج لنا في نهاية الطريق اقتصادا أكثر قوة ومناعة وصلابة، يكون في غنىٍ تام عن غذاء الدعم الحكومي المكلفة فاتورته كما ثبت لنا، ويسهم مستقبلا في دعم الميزانية العامّة للدولة عوضا عن إرهاقها الكبير، ويزيد من قدرتها ومواردها لمواجهة التحديات التنموية الحقيقية للمجتمع والأفراد. هذا باختصارٍ خلاصة الحديث عن شركة "سابك" وغيرها من الشركات التي سيأتي الحديث عنها في المستقبل القريب، وضرورة مراجعة كل شؤونها وأدوارها، بدءا من داخل الشركة، وانتهاءً بعلاقتها مع الاقتصاد الوطني والشركات الوطنية كافّة ذات العلاقة التجارية مع "سابك". في الشأن الأخير المتعلّق بعلاقة "سابك" مع بقية الشركات الوطنية؛ يمكن القول إن "سابك" مُنحتْ من "الدلال" ما لم تُمنحه أيّ شركةٍ أخرى في البلاد، وفي الوقت ذاته لم تسمح الإدارة التنفيذية لـ ”سابك” ولو بتمرير 1.0 في المائة من هذا "الدلال" إلى بقية منشآت القطاع الخاص! بل إنّها تحوّلت في الكثير من المراحل إلى حجر عثرةٍ في طريق تلك المنشآت، تشددتْ معها كثيرا في خصوص بيعها للمواد الخام، وتسببتْ ليس فقط في تعثّر العديد منها، بل انتقلتْ آثار سياساتها التسويقية والبيعية محليا إلى رفع معدل التضخم، ولسنا ببعيدين عما جرى في الفترة 2008-2007 التي وصل معدل التضخم حينها إلى أعلى من 10 في المائة، من أشهرها ما يتعلّق بالحديد والبلاستيك، زاد من وطأتها ارتفاع الإنفاق الحكومي على مشروعات البنى التحتية (بلغتْ قيمتها الإجمالية 2.1 تريليون ريال خلال العقد الماضي)، التي عانتْ بدورها التعثّر والتوقّف! هل اتخذتْ شركة "سابك" أيّ إجراءاتٍ تسهم في تخفيف حدّة تلك الضغوط؟! على الإطلاق، كان كل ما صدر عن إدارة "سابك" لا يتعدّى التصريح بأنها شركة يحق لها العمل على تحقيق مصلحة المستثمرين فيها، دون النظر إلى أيّة اعتباراتٍ أخرى، ودون حتى النظر إلى ما تتمتع به منفردةً من مزايا تحفيزية حكومية. يصل عدد المصانع في قطاع الصناعات الكيماوية والبلاستيكية بالسوق المحلية إلى نحو 821 مصنعا، بإجمالي تمويل قدره 158 مليار ريال، منها 135 مصنعا بشراكة سعودية وأجنبية. تُشكّل تكلفة المواد "الخام" الأساسية للبلاستيك بالنسبة لتلك المصانع ما بين 60 و70 في المائة من التكلفة الإجمالية، ما يمثّل عائقا يصعب التعامل معه بالنسبة لبقية مصنعي البلاستيك الوطنيين، وما يعرقل تماما من تحويل صناعة البلاستيك لدينا إلى صناعة تصديرية مجدية وقوية. إذ يقدّر حجم السوق العالمية للصناعات البلاستيكية في الوقت الراهن بأكثر من 40 مليار دولار أمريكي، ولا تتجاوز قيمة صادرات المملكة من المنتجات البلاستيكية الجاهزة أكثر من 1,2 مليار ريال، بما لا يتجاوز 1.0 في المائة من حجم السوق العالمية. هذا ليس إلا أحد الأمثلة الصريحة على تأخّر "سابك" تجاه دعم بقية الصناعات الناشئة في البلاد، ولو أُتيح المجال للتوسّع في بقية القطاعات كالحديد، لاكتشفت جوانب أخرى من الصدمات المفاجئة والمستغربة. تدرك إدارة "سابك" مع الارتفاع الكبير لفاتورة هيكلها الإداري الراهن، المتشعب والمتضخم بكبار الموظفين، والمزايا المالية الضخمة التي يتحصّلون عليها سنويا، أنّ مرونة خفْض أسعار منتجاتها (محليا بالتحديد)، أو رفْع تكلفة اللقيم من جانبٍ آخر، أنّ تلك المرونة أقرب إلى (الصفر)، وهو ما أرجو أن يتاح بحثه بالتفصيل الرقمي قريبا، لهذا يمكن فهْم لماذا تتشدد إدارة "سابك" في تمسّكها بتلك الآليات، وأنّها غير مستعدة على الإطلاق للبحث في هذه المزايا المادية الضخمة، التي لم ولن تتردد في حصدها قبل حتى بذرها عن طريق رفع كفاءة خطوطها الإنتاجية، التي يغلب عليها التقادم وسوء استهلاكها للطاقة، كل هذا غير وارد في سلّم أولوياتها! لهذا يُنتظر أن تأتي المبادرة من أعلى منها قبل فوات الأوان، وأنْ نرى فعليا جهدا حكوميا رفيع المستوى يُخضع "سابك" للمراجعة وإعادة التقييم بصورةٍ شاملة ومستمرة. والله ولي التوفيق.
إنشرها