الناتج الإجمالي الإجرامي

" كيف يُحصلِون ضرائب شرعية، من أموال غير شرعية؟!"

آل كابون أحد أشهر زعماء المافيا في الولايات المتحدة

في التاريخ، يبقى آل كابون أكثر زعماء العصابات في الولايات المتحدة، الذين تمكنوا ببراعة من مقارعة سلطات مكافحة العصابات فيها إلى أن وقع. ويظل هذا المجرم، رمزاً رئيساً ليس فقط للإجرام، بل أيضاً لـ "الذكاء" الذي وفر له مساحات زمنية طويلة قبل الوقوع في أيدي العدالة، وكذلك رمزاً للمكر، والتنظيم، وتشتيت المسؤولية المشينة بين أكثر من طرف. ولكن تبقى المفارقة ماثلة في الذاكرة الأمنية والإنسانية، أن آل كابون لم يقع بالجرم المشهود، بل انتهى عن طريق ملاحقته الضريبية. فرغم قدرات القائد الأشهر لمكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكية ادجارد هوفر، لم يتمكن هذا الأخير من اصطياد آل كابون إلا عبر المصيدة الضريبية. وهي مصيدة يمكن أن يقع فيها صاحب بقالة لا يزيد رأسماله على 2000 دولار، أو مدرس خصوصي، يتقاضى عشرة دولارات في الساعة. وكانت مقولة آل كابون الشهيرة.
تتقدم دول في الاتحاد الأوروبي حالياً (كبريطانيا وإيطاليا) نحو احتساب الأموال التي تدرها الدعارة حتى المخدرات والجرائم الأخرى المختلفة، ضمن ماذا؟ ضمن الناتج الإجمالي المحلي! الأمر الذي دفع مفوضية الاتحاد إلى مراجعة القواعد التي تستند إليها في تحديد حجم الناتج المحلي لكل بلد تنضوي تحت لوائه. المعارضون لمثل هذه الخطوة المحلية والأوروبية، أسرعوا بإطلاق تسمية "إجمالي الناتج الإجرامي". وهو تعبير واضح، على أن العوائد الوطنية لم تعد نظيفة، أو في أفضل الأحوال، باتت ملوثة بمداخيل مواخير الدعارة وأزقة المخدرات وشبكات الاتجار بالبشر، وغيرها من الجرائم التي يفترض أنها على رأس أولويات المكافحة العالمية. ببساطة ستكون عوائد باعة الهوى، جنباً إلى جنب عوائد صناعة السيارات والجمارك وكل قطاع توفر الدخل المحلي.
المدافعون عن هذه الخطوة يعتقدون، أنه طالما هناك مدخول يتم محلياً، فلا بد أن يجمع مع الدخل الوطني العام، بصرف النظر عن الجوانب الأخلاقية، التي تبدو بلا قيمة حقيقية، وسط بحث الحكومات الأوروبية عن مزيد من القطاعات لرفد النمو المتواضع الناجم أصلاً عن الأزمة الاقتصادية العالمية. يضاف إلى ذلك، فإن العجز في الموازنات سينخفض تلقائياً، مما يعزز تثمين الاقتصادات المعنية من قبل المفوضية الأوروبية والمؤسسات الأخرى المستقلة، خصوصاً أن كل الاقتصادات الأوروبية (بدون استثناء) تمر بمرحلة مؤلمة من التقشف، الذي لن ينتهي في وقت قريب. ولكن ماذا عن الجانب الأخلاقي؟ يقول المدافعون: الأخلاق؟! لا دخل لها هنا، في رد على الهجوم الذي تعرضت له كل من الحكومتين البريطانية والإيطالية، من جانب وزراء فرنسيين، ورؤساء ورئيسات جمعيات نسائية مختلفة وغيرها.
وفي كل الأحوال، لن تتجاوز أي دولة ترغب في إدراج مداخيل الدعارة والمخدرات وغيرها ضمن ناتجها الإجمالي المحلي، الإجراءات المتبعة أوروبياً. ويدافع معهد "يورستات" الأوروبي للإحصاء عن مثل هذه الخطوة، لأن القائمين عليه ينظرون إلى العوائد المالية بعيداً عن طبيعتها. المهم بالنسبة إليهم قيمتها ودورها بالفعل في حراك الاقتصاد الوطني. فعلى سبيل المثال، تصل عوائد الدعارة والمخدرات في بلد كبريطانيا إلى 17 مليار دولار سنوياً، وهذه الأموال ترفع بالفعل الناتج المحلي. فقد كان عن المعهد الأوروبي المذكور أن يجد رداً مقنعاً على أولئك الذين يبحثون عن الأخلاق في هذا المجال. فلم يجد أن يقول سوى "لنترك الاعتبارات السياسية جانباً". ولكن مهلاً، هل الأمر يتعلق بالفعل باعتبارات سياسية، أم أخلاقية؟!
ولعل السؤال الأهم الذي لم يطرح من قبل المدافعين عن "إجمالي الناتج الإجرامي"، يبقى، كيف يمكن حساب حجم أموال الدعارة والمخدرات بالفعل؟ هل هناك سجلات ودفاتر حسابية؟ هل توجد جداول بعدد وأسماء العاملين في هاتين الجريمتين؟ هل يمكن تحديد دخل كل بائعة هوى مثلاً؟ ما الطريقة التي تكفل حساباً واقعياً لاستهلاك المخدرات؟! وإذا ضبطت بعض المخدرات، هل تحسب ضمن القيمة المضافة؟! أسئلة كثيرة من هذا القبيل تبقى بلا أجوبة، ليس للامتناع عن ذلك، بل لاستحالة التوصل إليها بالفعل. ولهذا السبب بالتحديد، يجري حالياً وضع قواعد حسابية جديدة، ستشمل بالتأكيد تقديرات عوائد الدعارة والمخدرات، بعيداً عن أرقامها الحقيقية المستحيلة. وفي كل الأحوال، لن ينخفض صوت المعارضين، وسيظلون يتحدثون عن الجانب الأخلاقي في هذا الأمر.
لن تشكل هذه الخطوة نفس الخطورة، التي شكلها غياب الأخلاق عن الأسواق المالية العالمية، الأمر الذي أدى إلى الأزمة الاقتصادية الشهيرة، وستكون مشينة بالنسبة للسياسيين الذين اعتمدوها فقط، خصوصاً أن العوائد الدنيئة هذه ستكون اسمية أكثر من كونها فعلية. غير أنها فعلية حقيقة على الأرض، وضمن ساحة المجتمع نفسه. وإذا كانت بعض الحكومات ارتضت بضم أموال قذرة لأموال الوطن المشروعة، عليها أن تواصل تحملها العوائد الاجتماعية الناجمة عن هذا النوع من التجارة أو كما تسمى سوقياً بـ"الصناعة". اليوم، دعارة ومخدرات.. ربما في الغد، الاتجار بالبشر والأموال المنهوبة من الشعوب، والصناعات المزيفة، والتهريب وغيرها، تدخل جميعها ضمن نطاق إجمالي الناتج الإجرامي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي