دبلوماسية الفكر والأيديولوجيا

يرى جان ميلسن Jan Melissen في مقدمة كتابه "الدبلوماسية الشعبية الجديدة: القوة الناعمة في العلاقات الدولية"، بأن الدبلوماسية الشعبية كممارسة قديمة جداً قدم التاريخ، إلا أن المصطلح في حد ذاته جديد. وقد عرف العرب هذه الدبلوماسية قبل الإسلام، لكن ليس بهذا المسمى الحديث. وهو ما يظهر بجلاء عند استعراضنا لتاريخنا العربي المديد، حيث استخدم أسلافنا الشعر، ومارسوا الكرم والنخوة والوفاء واشتهروا بالصدق والأمانة. هذه الصفات وغيرها من صفاتنا العربية النبيلة والأصيلة تدخل ضمن "الدبلوماسية الشعبية". كما يأتي محفل "سوق عكاظ" كأحد منصات ممارستنا للدبلوماسية الشعبية. وقد كان الرسول العربي عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أبرز من امتطى صهوة "القوة الناعمة" وشد لجامها، فكان بحق أنجح من مارس الدبلوماسية الشعبية في تاريخ البشر، فعرف بالصدق والأمانة قبل البعثة، وبعدها، ونجح بتوفيق الله في نشر الدعوة، فدخل الناس في دين الله أفواجا، وتأسست على يديه الشريفتين دولتنا الإسلامية.
وإذا ما نظرنا إلى انتشار هذا الدين العظيم ــــ على سبيل المثال ــــ في مناطق لم تصلها فتوحات أسلافنا، كجنوب شرق آسيا وإفريقيا، فإن ذلك يوضح دور الدبلوماسية الشعبية التي مارسها تُجارنا وبحارتنا القدامى تجاه شعوب تلك المناطق البعيدة في نشر دعوة الرسول العربي الكريم.
وفي هذا السياق نفهم تصنيف علماء السياسة للهوية، والعقيدة، والفكر ــــ وكلها بالمناسبة مترادفات متشابهة، تشير تقريباً إلى مصطلح الأيديولوجيا Ideology ــــ تصنيفهم لها ضمن المصالح العليا للدولة، تماماً كالأرض Territory، والشعب أو السكان Population، والبقاء Survival، والأمن Security، والأمان Safety.
فالعقيدة والهوية والدين مصلحة وطنية عليا أساسية، وسميت "عليا" لأن الدولة تتزعزع وتنهار إن هي فقدتها، والدولة ــــ أياً كانت ــــ لن تتردد في الدخول في حرب لضمانها وتأمينها وحمايتها.
وبعيداً عن نظرية "المؤامرة"، إلا أن الواقع على الأرض يشير إلى تعرضنا في السعودية لحملات إعلامية دعائية تشويهية مستمرة، نظراً لما نتمتع به من ثقل ديني، وسياسي واقتصادي وأمني وعسكري، ولأهميتنا ومكانتنا الاستراتيجية في العالم الإسلامي. كما أن المتابع يلحظ بجلاء تصاعد هذه الحملات العدائية في كل موقف نقفه نصرة للحق والعدل وترسيخ السلام، ودفاعاً عن مصالحنا ومصالح الشعوب العربية والإسلامية، والدين الإسلامي الحنيف.
إننا نرصد بوضوح ما تتعرض له الشعوب الشقيقة والصديقة باستمرار من معلومات مغلوطة، ومضللة، عن ديننا وعقيدتنا الإسلامية السمحة، سواء في الدول غير الإسلامية، أو حتى في الدول الإسلامية أيضاً!!
ويرجع ذلك إما لجهل مصدر المعلومة بحقيقة ديننا الاسلامي الحنيف، أو نتيجة لدعاية مغرضة تعمدت الإساءة لفكرنا وهويتنا، وعقيدتنا الصافية، وربطها بالإرهاب والتطرف والغلو، بهدف شيطنتنا، وعزلنا عن محيطنا والعالم، لنكون منبوذين، مكروهين، وليسهل وتحت أي ظرف مواتي، تبرير الاعتداء علينا وعلى مصالحنا، الحيوية تمهيداً للمساس بمصالحنا العليا.
ونظراً لصعوبة تقبل مهاجمة الدين الإسلامي داخل العالم الإسلامي وخارجه، فقد عمد العدو لاستخدام أسلوب معروف من أساليب البروبغندا القذرة يدعى الوسم Labeling أو العلامة Branding، حيث يتم تأطير هويتنا وفكرنا وعقيدتنا داخله عزلاً عن الإسلام في عمومه، ثم ربط هذا الوسم أو هذه العلامة أوال Brand بالإرهاب والتطرف، وانتهاك الحقوق، وقمع الحريات، والهمجية، واحتقار المرأة؛ وعزو ذلك إلى هذا الفهم وهذا الفكر وهذه الأيديولوجيا التي يجري وصفها بـ "الدخيلة" و"الكريهة" و"المشوهة" و"المنبوذة" و"السقيمة" و"الجاهلة". فهي إذن محاولة مستمرة لعزلنا عبر وسمنا بـ "الوهابية"تارة، و"السلفية" تارة أخرى، وكأنها مذهب مختلف، أو فرقة دينية متزمتة مستحدثة! وكأنها لم تكن مجرد اتباع لكتاب الله وسنة رسوله ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ على ما كان عليه آل بيته وصحابته والتابعين لهم بإحسان، وكأن الأئمة الفقهاء الأربعة لم يكونوا على نهج السلف! فهؤلاء سلفنا ونحن خلفهم، هذه هي السلفية التي نفاخر بها بكل بساطة.
وبالتالي فإن الحاجة الآن أضحت أكثر إلحاحاً لنلتفت إلى دبلوماسية الفكر والأيديولوجيا، ولتقوم نخبة من أهل العلم والفكر والثقافة والتراث والأدب والفنون ــــ كلٌ بحسبه واختصاصه - بتوضيح هذه الحقائق، وتبيان ذلك للشعوب الشقيقة والصديقة، ونشر قصتنا، قصة السعودية وعقيدتها الإسلامية الصافية التي نشأت عليها، كامتداد حضاري وفكري حديث للدولة العربية الإسلامية، فأن يعرفوا فكرنا وأيديولوجيتنا بشكل سليم يعني أنهم سيحبوننا، كون هذا الفكر وهذه العقيدة قائمة على العلم والمعرفة والتفكر، والتسامح، والعدل، والحرية المسؤولة، وأن ما يشاهد في أصقاع العالم من جماعات وفرق متطرفة إرهابية تسمي نفسها زوراً بالسلفية أو الإسلامية هي ليست في الواقع على منهج الرسول الكريم وآل بيته وصحابته وسلفهم الصالح في شيء، بل هم خوارج عن هذا النهج، والإسلام براء من فكرهم وأيديولوجيتهم وما يصنعون.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي