متى يكون النمو الاقتصادي «مقبولا»؟

أستكمل في هذا المقال تحليل وفحص ما سبق الإشارة إليه في المقالين السابقين، من بعض التصريحات المتعلّقة بتحديات الاقتصاد الوطني. آتي إلى الحديث عن معدلات النمو الاقتصادي المتوقعة، حيث ذكر محافظ مؤسسة النقد أنه وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، يُتوقع أن يصل النمو الحقيقي للاقتصاد بنهاية العام الجاري إلى نحو 4.4 في المائة، وأنّ المحرّك الرئيس له سيكون القطاع الخاص، بالاعتماد على الاستثمارات الحكومية التي ستلعب بدورها المحرك الرئيس لنمو القطاع الخاص! كل تلك التوقعات حظيت "بالقبول التام" من لدن محافظ المؤسسة.
الآن؛ بالنظر إلى ما أوضحه صندوق النقد الدولي في تقريره "مشاورات المادة الرابعة لعام 2013"، أنّه مقابل ارتفاع معدلات النمو الحقيقية للاقتصاد السعودي، إلا أنّ مرونة توظيف العاملين السعوديين في القطاع الخاص تراجعت من 1.1 في المائة خلال الفترة 1990-2012، إلى نحو 0.6 في المائة خلال العقد الماضي "يتم تقدير مرونة توظيف العاملين السعوديين باستخدام انحدار خطّي بين لوغاريتم معدل توظيف العاملين السعوديين في القطاع الخاص ولوغاريتم إجمالي الناتج المحلي غير النفطي الحقيقي". وهو ما أشار إليه الصندوق في التقرير ذاته، وعبر تصريح مديره في المملكة حينما أشار إلى أنّ أغلب الزيادات في التوظيف ذهبت لصالح العمالة الوافدة خلال الفترة الماضية. ما الذي تحمله هنا دلالات النمو الاقتصادي التي حظيتْ "بالقبول" من مؤسسة النقد؟
لدينا ثلاثة إشكالات بالغة الخطورة، يجب أنْ نتوقف عندها كثيراً، وأنْ تتخذ تجاهها الجهات المسؤولة عنها إجراءاتٍ أكثر تغييراً وتطويرا في سياساتها، وذلك من خلال تتبع مصادر نشوء الخلل، والعمل من ثم بسرعة على تعديل سياساتها وبرامجها.
الإشكالية الأولى: أنّ النمو المتوقع تحققه للاقتصاد سينتج عنه زيادة أكبر في استقدام العمالة الوافدة، مقابل انحسار فرص التوظيف للباحثين عن عمل من المواطنين! ما فائدة النمو الاقتصادي هنا الذي تتضاءل آثاره الإيجابية على المواطنين، وفي المقابل نجد أن ثمارها تذهب إلى الخارج؟ أرجع لما سبق ذكره أعلاه حول انخفاض مرونة توظيف العاملين السعوديين في القطاع الخاص، الذي يعوّل عليه لعب الدور الرئيس في تحقيق النمو المرتقب للاقتصاد الوطني. فوفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، إنْ حافظت مرونة التوظيف المذكورة أعلاه على مستواها المتدني عند 0.6 في المائة، فإنّ التوقعات تشير إلى أن عدد العاطلين من المواطنين سيرتفع خلال العقد المقبل إلى 1.4 مليون عاطل "تقرير مشاورات المادة الرابعة لعام 2013- صفحة 14".
الإشكالية الثانية: أنّ المحرك الرئيس للنمو الذي تحقق للقطاع الخاص، الذي يُعقد عليه أن يكون مصدر النمو الرئيس للاقتصاد، أتى بصورةٍ أساسية من قطاعي تجارة الجملة والتجزئة، البناء والتشييد، هذان القطاعان كانا أيضاً المصدر الأهم لاستقدام العمالة من الخارج. وهو ما يؤكده ما ذهبت إليه في مقالي الأخير "كيف النجاة من ورْطة التضليل"؟، حينما أشرتُ إلى أن القطاع الخاص لدينا يرتكز نشاطه على أحد نشاطين (1) الاستيراد بالجملة والبيع بالتجزئة، أو (2) الاقتيات على المناقصات الحكومية. لقد تقاطع هذان القطاعان عند خمس سماتٍ بالغة الخطورة، يمكن تلخيصها فيما يلي: (1) الأعلى استقدام للعمالة الوافدة. (2) الأدنى مستوى في الأجور. (3) الأدنى مستوى في التأهيل العلمي المطلوب. (4) الأدنى مساهمة على مستوى التنويع الإنتاجي للاقتصاد الوطني. (5) الأعلى تورّطاً في ارتكاب جريمة التوظيف الوهمي للمواطنين والمواطنات.
الأمر الملفتْ أنّ تورّم هذين القطاعين، أتت نتائجه وخيمة على مستوى الاستقرار الاقتصادي والتنمية المستدامة وتحفيز قدرة الاقتصاد على تنويعه الإنتاجي، فمقابل قصور أداء القطاع الخاص تجاه الركيزة الأخيرة المتعلقة بالتنويع الإنتاجي، تضخم قطاع تجارة الجملة والتجزئة الذي يعتمد على الاستيراد بالجملة والبيع بالتجزئة، شهدنا انعكاسها من خلال ارتفاع نسبة اعتماد الاستهلاك المحلي الخاص على الواردات، حيث ارتفعتْ النسبة خلال العقد الماضي من أقل من 42 في المائة، إلى أنْ بلغت بنهاية العام الماضي أعلى من 74 في المائة، علماً بأنّها وصلت إلى أعلى نسبة لها في تاريخ الاقتصاد الوطني عند 82.4 في المائة بنهاية 2008. وفي الجانب الآخر المتعلق بعقود التشييد والبناء التي حاز عليها القطاع الخاص طوال العقد الماضي، التي وصلتْ إلى نحو 2.0 تريليون ريال، لم يقابلها نجاح ملموس في سرعة التنفيذ، بل العكس تماماً، وُجد أنّ نحو 60 في المائة سقط في فخاخ التعثّر أو التأخير أو حتى التوقف، ولم يجن منها الاقتصاد إلا الآثار التضخمية التي ألحقت أشد الأضرار بالدخل الحقيقي للأفراد.
الإشكالية الثالثة: أنّ مؤسسة النقد وصندوق النقد الدولي اتفقا على ضرورة تنشيط الاستثمارات الحكومية في الداخل، الذي من شأنه أنْ يعزز من تنويع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الوطني، وبدوره سيخرج الاقتصاد الوطني من سيطرة القطاع النفطي بالدرجة الأولى، وبالدرجة الثانية يعطي القطاع الخاص مجالاً أرحب للتوسع في مجالات أخرى أفضل بعيداً عن قطاعي تجارة الحملة والتجزئة، والتشييد والبناء. هذا جيد، ولكن في موقع آخر، اتفق الطرفان ذاتهما على ضرورة زيادة الاحتياطيات في الخارج، وأنّها تمثل "الوسادة" المريحة للاقتصاد في حال تراجعت أسعار النفط. أعتقد أنّ هاتين الفقرتين من النصائح أو التوصيات، تثبت كثيراً حقيقة التضارب والتعارض. لهما أقول، لا يوجد أمام الاقتصاد الوطني كخيار استراتيجي تجاه أية مخاطر أو تقلبات في المستقبل، أفضل من أن يتم تحويل تلك الاحتياطيات "السائلة" في الخارج، إلى "أصولٍ منتجة" في الداخل، وهو ما ركّزت عليه توصيات الخطة الاستراتيجية المدونة في وزارة الاقتصاد والتخطيط، وهي "الوسادة" الدائمة التي يمكن الوثوق فيها حاضراً ومستقبلاً، مقابل كونها "وسادة" يمكن استنفادها في حال انخفضت أسعار النفط في أقل من عامين، قياساً على مستوى الإنفاق الحكومي الذي أصبح يناهز التريليون ريال سنوياً.
مستقبلاً، سأعود -بإذن الله تعالى- إلى التوسع في الملفات أعلاه، على أنها كانت ولا تزال هي الملفات التي تحظى بالأولوية لدى الكاتب وغيره من المختصين، أما بالنسبة للملف الأثقل وزناً "الإسكان" فإضافة إلى ما تم الكتابة عنه في العديد من المقالات السابقة، فإنّه يستحق إفراد أكثر من مقال، سيكون لها ذلك قريبا بمشيئة الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي