رعى الله عروس الجبال ..

بعد رحلة ثقافية سياحية جعلتني أهيم عشقاً بالرمل والجبال وزهّر الليمون والبرتقال ... أظلُ لا أملك الجرأة على صوغ المشهد الإنساني والحياتي والثقافي لعروس الجبال وعاصمة الأثار، بلد الحضارات وقاعدة الأنساب، منشأ موسى بن نصير وموطن جميل بثينة بنخلها وعيونها وكثبانها الرملية وتشكيلات جبالها المهيبة. لازال يسكنني الوهج ويضيء بداخلي ذاك الألق كالشرارة، لدرجة أني أنفصلت عن واقعي عندما عدتُ إلى جدة الحبيبة.

وكلما أستلقيت لأهرب لهدوئي استعمرتني صورة الفضاء الرملي والجبال الجريئة في بانوراما ثلاثية الأبعاد فاقت كل توقعاتي. بلدة طيبة أقام بها الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء ذهابه إلى غزوة تبوك، ودعا لأهلها. بقعةٌ شمالية من الوطن لازالت كالعروس في خدرها محشومةٌ أبيّة. تم تصنيفها ضمن مواقع التراث العالمي عام 2008م من قِبل منظمة الأمم المتحدة للعلوم والتربية والثقافة كموقع تراث عالمي، وبذلك تصبح أول موقعٍ في السعودية ينضم إلى قائمة مواقع التراث العالمي .

مدائن صالح أو قُرى صالح أو الحجر وهي تسميات أُطلقت على قصور ومقابر الأنباط المنحوتة في الجبال بطريقة رائعة، سلاسل ممتدة بها قصر الفريد وقصر البنت وقاعة الديوان ومواقع محطات سكة الحديد منذ العهد العثماني والقرية الطينية الأثرية، كلها أماكن خارج الزمن وخارج توقعات البشر ينقلب فيها الظن إلى يقين فالتناقض والتوافق في هذا المكان غير محتمل! فما أن وطئت الأقدام مشارف العُلا حتى يدخل المرء في عمق البساطة والفرح والعفوية.. تشعر أنك ترسم ملامحاً جديدة لروحك بريشة التاريخ وتشكيلات السحب وهيبة الجبال وتنثر فوقها أكليلاً لامعاً من النجوم آخر كل ليلة.

صنعة الإرشاد السياحي الراقية تمثلت في شخص المرشد (سمير قمصاني) وخبرته وحرصه على تحقيق الأمثل، مما جعل الرحلة حاضراً لا ينسى. شخصية (أحمد الإمام) المبُهرة مرشدنا السياحي (إبن العُلا وسليلها) تقف شاهدةً في وصفه وعباراته على عظمة الماضي وفخره به، إحترمتُ كثيراً نزعة الانفتاح في الإنسان (أحمد) وهو المنهكٌ بآماله وأحلامه من أجل هذه المنطقة. وتلمستُ اعتزازه بمجد أمه وبالمرأة المعروفة راعية الغنم التي تحرس قطيعها على الطريق من سيارتها (الونيت). إنها العبقرية غير المقصودة لأهل المنطقة ورجالاتها، تمثلت في استخدام الدلالات التاريخية في مدائن صالح لتعبّر عن أصالة إنسان المنطقة وقدم التاريخ في رقي سلوكياته.

طقوس مجموعتنا في السفر كانت التجهيز للمغامرة والاكتشاف، ثقافة السفر مع مجموعة تتراوح بين صفات المسافر ومعنى السفر والسبع فوائد ووهم الطرقات .. الطقوس كانت من الجرأة على التحديق في السماوات، في ترك غيرك ليحكي عنك.. في السكوت وأنت أكيدٌ أن في السكون تأملٌ وعبادة. أن تنوي السياحة في ملكوت الخلاّق العظيم وأن تبقى مشدوهاً لا تساوي حبة خردل... وأن تفتعل الضجيج وتنثر الضحك وتبقى معلقاً بين الخيارات.. ثم تعود تحمل حقيبة ملابسك وكراتين من مزارع اليوسفي والبرتقال... لتعلو الدلالات على كل معنى...ولا تغيب مدائن صالح عنّا رغم الغياب..

عدتُ والقلب مرهونٌ عند أهل العُلا...كله خجلٌ ووجلّ... تحملُ الكاميرات ألف صورة ويضج الخاطر بأسئلة لحوحة تفرضها المسؤولية نحو هذا الجمال؟ كم مواطناً سعودياً من الـ22 مليون زار هذه المنطقة ؟ وهل تنظم وزارة التربية والتعليم رحلات كشفية لطلاب المدارس للتعرف على ربوع الوطن وتعزيز الانتماء وغرس المواطنة؟ هل ننتمي حقاً لتضاريس الأماكن أم لسكان هذه الأماكن؟ مسئولية وزارة السياحة وأمارة المنطقة وأهلها ومحبوها تقتضي تكثيف الوعي لدى الناس بالمكان وتاريخه وتراثه عبر تشجيع الرحلات في (ربوع بلادي) ودعوة الوفود الثقافية والجاليات وعقد المؤتمرات. لماذا هذا التعمدّ في إهمال آثارنا وفخرنا بينما العالم يحسدنا على ثرواتنا التاريخية على امتداد حدود المملكة الجغرافية؟ ولماذا تتواضع البنية التحتية في مدن الأطراف؟ يا ترى أنكره آثارنا لدرجة العشق! أم نعشقها لدرجة الكراهية ؟ فنهملها لأنها مما نملك !؟ وهل حقاً نحن أعداء جهلنا بالمكان؟ كل ما أردته وأنا راحلة... أن أقبض على لحية المسؤول (إن كانت له لحية!) لأسألهُ وأحاسبهُ وأعاتبهُ... فمن بربكم يتحمل مسؤولية التغييب والغياب ؟!

بلدٌ جميلٌ وأهلهُ طيبون ...

وعشقُ الأمكنة تماماً كعشق الروح يجعلك تتغاضى عن العيوب، تنطق ولا تسكت وتحكي ولا تشكي ..تنفصل عن المكان بالروح ولكنك تترك بعد الرحيل جزءاً يتيماً منك .. ينتظر الكرماء.

لكن عشق المدن فنٌّ الهواية والغواية.. أختبرته وعاينته،

فما بالكم بمن رحل إلى "وادي القرى" فترك قلبهُ عمداً ..أملاً في أن يعود..

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي